فيلم "الإخوة الأعداء".. ما أسباب مذبحة 13 يناير في جنوب اليمن؟ وكيف تشكل واقع البلاد إلى اليوم؟
- الجزيرة نت - محمد دبوان المياحي الخميس, 13 أكتوبر, 2022 - 10:14 صباحاً
فيلم

في رواية "الإخوة الأعداء" للكاتب اليوناني الشهير "نيكوس كازانتزاكيس"، وردت العبارة: "هذه إرادة الله.. أما طريق الله فمُغلَق، الله فيما يبدو لا يُدخِل نفسه في شؤوننا، ، لأنه أعطانا عقلا وأعطانا الحرية ونفض يديه مما نفعل بعد ذلك". بالمصادفة، وردت العبارة نفسها تقريبا على لسان الرئيس اليمني لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب اليمني قبل الوحدة 1980-1986) في فيلم "الإخوة الأعداء"، بالجزء الأول من برنامج "المُتحَرِّي" الذي بثَّته قناة الجزيرة. (1) وثمة احتمال كبير أن "جمال المليكي"، مخرج فيلم "الإخوة الأعداء"، استلهم اسمه من الرواية سابقة الذكر. وسواء حدث التطابق بفعل المصادفة أم أنه اختيار مقصود، ففي الحالتين نحن أمام تطابق ذكي بين مادة الفيلم وموضوع الرواية، حيث تتناول المادتان على اختلاف طبيعتيهما موضوعا ذا مضمون متشابه.

 

لقد تناولت رواية "الإخوة الأعداء" لـ"كازانتزاكيس" أحداث الحرب الأهلية في اليونان أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. وبدوره يتناول فيلم "الإخوة الأعداء" في برنامج "المتحري" الحرب الأهلية في جنوب اليمن، وتحديدا الأسابيع الأكثر دموية ووحشية المعروفة بأحداث 13 يناير/كانون الثاني 1986. من بداهة القول إن أسباب تلك المذبحة لم تنبع من "إرادة الله"، فهذا تفسير غيبي لأحداث بشرية ذهب إليها الفاعلون في المشهد بأيديهم. لكن مهمتنا الآن ليست مناقشة فكرة ميتافيزيقية، سواء تلك التي جاءت في رواية "الإخوة الأعداء" أو قالها ضيف برنامج "المتحري"، بل الدخول إلى موضوعنا، وهو فيلم "الإخوة الأعداء"، وما تضمَّنه من سردية حول الحدث.

 

جنوب اليمن.. مقدمة لا بد منها

 

تولى أمين عام الجبهة "قحطان محمد الشعبي" رئاسة الجمهورية وشُكِّلت أول حكومة برئاسته. ومن هنا بدأت المرحلة الأصعب في طريق بناء الدولة باليمن الجنوبي.

 

مثله مثل أغلب البلدان العربية، وقع الشطر الجنوبي من اليمن أسيرا للاستعمار البريطاني على مدار قرن ونيف بقيت فيه جغرافيا اليمن بمنزلة امتداد للإمبراطورية التي لم تغِب عنها الشمس. وقد نشأت طيلة تلك الفترة محاولات للتحرر الوطني وحركات كفاح مسلح استمرت لعقود طويلة، غير أنها كانت محدودة ولم تتمكن من تحقيق أي تحول ملموس لصالح أبناء الأرض. وقد تشكَّلت حركتان وطنيتان بارزتان أثناء القرن العشرين هما "جبهة التحرير" و"الجبهة القومية"، اللتان كانتا بمنزلة العمود الفقري لحرب الاستقلال في جنوب اليمن.

 

وحين قررت بريطانيا تحت ضغط الكفاح المسلح الانسحاب من جنوب اليمن، كانت الجبهة القومية الطرف الأبرز، حيث تزعَّم قادتها المفاوضات مع المستعمر، وتمكَّنوا من نيل استقلال بلادهم. وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 رحل آخر جندي بريطاني عن مدينة عدن، وأُعلِن الاستقلال الوطني بتأسيس جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. وتولَّت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن مسؤولية الحكم، وتولى أمين عام الجبهة "قحطان محمد الشعبي" رئاسة الجمهورية وشُكِّلت أول حكومة برئاسته (2). ومن هنا بدأت المرحلة الأصعب في طريق بناء الدولة باليمن الجنوبي، التي انتهت بمذبحة 13 يناير/كانون الثاني 1986.

 

في 19 أغسطس/آب الماضي، عرضت قناة الجزيرة حلقة استقصائية بعنوان "الإخوة الأعداء" من برنامج "المتحري"، ودارت أحداث الفيلم حول ما جرى في مذبحة 13 يناير/كانون الثاني 1986. ولنا أن نتساءل مَن هم الإخوة الأعداء هنا؟ ففي كل زمان ومكان ثمة خصومة خفية وظاهرة تنشأ بين الإخوة، غير أن المقصود هنا ليس أخوة النسب، بل أخوة النضال المشترك، أخوة القضية. وفيما يخص موضوعنا هنا، فإن الإخوة الأعداء بحسب الفيلم هم النخبة السياسية الحاكمة في جنوب اليمن، والزمرة والطغمة بحسب التوصيف اليمني الشهير لأقطاب الصراع اليمني، وصانعي المذبحة الدامية التي وقعت قبل 36 عاما. (3)

 

لماذا تصارع إذن رفاق القضية الواحدة؟ وكيف وصل بهم الحال إلى تلك اللحظة الفارقة؟ وما ملابسات المذبحة اليمنية الشهيرة؟ هذا ما نحاول البحث فيه هنا مستعينين بما أورده الفيلم المذكور آنفا. في البداية، يجدر القول إن كل المهتمين بمتابعة تفاصيل الواقع السياسي اليمني وتاريخه سيلاحظ أننا أمام بلاد مُمزَّقة لا يزال شعبها يصارع من أجل أساسيات العيش والبقاء، وسيجد تاريخ اليمن المكتوب مُبعثَرا، ومن ثمَّ هنالك حاجة مُلِحَّة إلى توثيق بعض الأحداث السياسية المهمة في اليمن، والحديث عن مذبحة 13 يناير في جنوب اليمن بمنزلة خيط أوَّلي لفهم الواقع اليمني وصولا إلى هذه اللحظة. وعليه يمكن القول مبدئيا إن فيلم "الإخوة الأعداء" الذي بُث على قناة الجزيرة بمنزلة ذاكرة مرئية بمستوى عالٍ من الجودة، قدَّم للأجيال اليمنية صفحة مهمة من أرشيفها، ولملم جزءا من ذاكرتها المتشرذمة.

 

قيود الجغرافيا والاجتماع في جنوب اليمن

 

على مدار 36 عاما، ظلَّت أحداث 13 يناير في الجنوب اليمني غامضة، وبقيت تناولات الموضوع مُجتزأة، ولم يحدث أن تمكَّن صحفي أو منتج مرئي أو مقروء من إزاحة الغموض عن الحدث ونَقْلِ توثيق شامل ومرجعي للأجيال التالية. وأسباب هذا الغموض كثيرة، منها شعور كل الأطراف التي لا تزال موجودة بأنها متورطة في المذبحة، مع صعوبة إقناعها بالحديث عما جرى. بيد أن فيلم "الإخوة الأعداء" استطاع الدفع بشخصيتين أساسيتين في المشهد آنذاك إلى الحديث بصراحة؛ إنهما "علي ناصر محمد"، الضيف الأساسي في الفيلم، و"علي سالم البيض"، الذي ظهر في تسجيل حصري وأدلى بشهادته عن المذبحة. وقد تربَّع كلاهما على عرش السلطة في الجنوب اليمني، أحدهما قبل أحداث يناير والثاني بعدها. إن موافقة الرجلين على التحدُّث نقلة كبيرة في مواقفهما السابقة، وإسهام تاريخي مهم باستخراج شهادة حية منهما.

 

لطالما تهرَّب المسؤولون اليمنيون من المكاشفات التاريخية، متذرعين بأن المصالحة الجنوبية تقتضي وقف الحديث عن وقائع 13 يناير، في حين أن الحقيقة تقتضي النزاهة تجاه الماضي، وتأسيس الوفاق على الوضوح وليس طمس الذاكرة. وعليه، فما قام به فيلم "الإخوة الأعداء" ليس نبش الماضي، بل إسهام مهم في تجلية الذاكرة، وإيقاظ الوعي اليمني إزاء احتمالات الصراع وما يمكن أن يؤول إليه واقع الجنوب اليمني اليوم قياسا على ما جرى بالأمس. ففي جزئه الأول، يسرد الفيلم قصة الدولة اليمنية الجنوبية منذ خروج المستعمر البريطاني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، مرورا بكل المراحل التي خاضها الجنوب وصولا إلى مذبحة 13 يناير/كانون الثاني. وقد تضمن الفيلم مادة تحقيقية شديدة الأهمية ومتصلة بواقع اليمن اليوم يمكنها شرح جوانب من الواقع السياسي المتجسد أمامنا في جغرافيا الجنوب اليمني. كيف ذلك؟

 

إن جنوب اليمن جغرافيًّا واجتماعيًّا يعاني من مشكلات بنيوية واضحة، فهو شاسع من حيث المساحة، وضئيل التعداد من حيث السكان، وهو ما ينعكس على طبيعة القوى السياسية. فمنذ استقلاله عجزت الأنظمة السياسية المتتالية عن ترسيخ قواعد منظمة لإدارته. وفي العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة الوليدة، أي منذ استقلالها حتى الوحدة اليمنية عام 1990، ظلَّت البلاد في حالة صراع متواصل. هنا تجدر الإشارة إلى المداخلة الدقيقة لـ"ستيفن داي"، الخبير الأميركي بالشؤون اليمنية الذي ظهر في فيلم "الإخوة الأعداء"، حيث وصف الأشخاص الثلاثة الذين رسموا المشهد في الجنوب بين عامي 1969-1986، وهُم "علي ناصر محمد" و"عبد الفتاح إسماعيل" و"سالم ربيع علي"، قائلا إنهم شديدو التمايز ولم يحملوا رؤية موحدة، وأن كلًّا منهم فكَّر في التآمر على الآخر، مما نتج عنه في الأخير مذبحة 13 يناير.

 

إن أول درس قدَّمه الفيلم إذن هو أن الجنوب يفتقد نخبة سياسية ذات رؤية متجانسة، وقبل ذلك يفتقد لمراكز ثقل اجتماعية راسخة بما يكفي لإحداث استقرار اجتماعي وتوافق سياسي. وجنوب الأمس، بما حدث فيه من مذابح صادمة، لا يزال هو جنوب اليوم. فالمجتمع هو نفسه، ولم يحدث فيه أي نقلة جذرية أعادت هندسة المجتمع وأزاحت عناصر الشقاق السياسي والتشرذم الاجتماعي. وبالنظر إلى الفاعل السياسي الأبرز داخل جغرافيا الجنوب اليوم، المجلس الانتقالي الجنوبي، فإن تركيبته وطريقته في تمثيل القضية الجنوبية تقول لنا الكثير عن مآلات هذا النهج وما يمكن أن يؤسس له من مصير في الشطر الجنوبي من اليمن.

 

"الإخوة الأعداء".. جرس إنذار للمجلس الانتقالي الجنوبي

 

أورد فيلم "الإخوة الأعداء" مداخلات شرحت أسباب الصراع بين النخب الجنوبية. ومع أن الفيلم محكوم بزمن محدد مثله مثل أي مادة مرئية، ولم يستطع الإطالة في تشريح دوافع الصراع، فإنه نجح في تقديم مفاتيح دقيقة يمكن لنا أن نفهم منها جوهر معضلة جنوب اليمن بوضوح. ومن تلك المفاتيح الدوافع الأيديولوجية (الاشتراكية) للصراع، وهي نقطة مهمة تكشف كيف تصارعت النخبة الجنوبية آنذاك رغم انتهاج أيديولوجيا يُفترض أنها ذات منبع واحد. ومن هنا يظهر لنا أن وحدة الأيديولوجيا قد تصبح سببا للصراع وليس للتجانس بالضرورة. وقد تطرَّق الفيلم بشكل عابر لافتقاد النخب المتصارعة إلى الواقعية السياسية، حيث أخذت تُردِّد شعارات مثالية حينئذ، ولم تضع اعتبارا للمصالح المتنافرة ومدى قابلية أفكارها للتطبيق، ومدى قدرتها على تنفيذ وعودها.

 

لا يزال هذا الأمر ساريا حتى اللحظة في جنوب اليمن، فقد تغيَّرت الواجهة التي ترفع الشعارات وتبدَّلت مضامينها، لكنها تتصف بالسمات الوهمية نفسها. فقد انزوت شعارات مشاريع التحرر والتنوير التقدمي، وحلَّت مكانها شعارات التحرير وحق تقرير المصير، بل وتجاوزتها للحديث عن الهوية المتمايزة للجنوب. بيد أن كل هذه لافتات ليس إلا يُضلَّل بها الشارع الجنوبي اليوم كما ضُلِّل بالأمس بواسطة شعارات أفضت به في النهاية إلى المذابح. هذه اللفتات الواردة في الفيلم تخدم واقع المجتمع الجنوبي اليوم لو توقفنا معها كما يجب.

 

تلقَّى أغلب اليمنيين في الشمال والجنوب فيلم "الإخوة الأعداء" بنوع من الانتباه. وقد وقف أنصار المجلس الانتقالي وحدهم في محاولتهم التشويش على الفيلم، بل وإنكار وجود أي رابط بين ما قدَّمه الفيلم وبين الواقع السياسي الجنوبي الراهن الذي يُرسِّخه المجلس، ولكن لماذا يتهرَّب المجلس الانتقالي من أي استنتاجات تربط بين أحداث 13 يناير وإدارته للجنوب؟ إن أي متابع لنهج المجلس منذ إعلان تأسيسه عام 2017 يدرك بوضوح أنه يُمثِّل أحد أطراف الصراع الجنوبي-الجنوبي، مهما حاول تقديم نفسه بوصفه مظلة جامعة للجنوب اليمني كاملا، فهو ليس أكثر من تجلٍّ جديد لعناصر شقاق قديمة، مع فارق أننا هذه المرة إزاء فصيل يتخذ من تحالفاته الإقليمية مرجعية وسندا له، ولا يستند إلى أيديولوجيا كونية كما هو حال رفاق الأمس.

 

لقد أعاد فيلم "الإخوة الأعداء" موضوعا مهما إلى السطح في توقيت يخطو فيه الجنوب نحو مصير يحمل كل عوامل الصراع الكامنة في المجتمع. ولم يقل لنا الفيلم ذلك بطريقة مباشرة، ولم يتورط باستنتاجات تنطوي على موقف سياسي من المجلس الانتقالي، وهذا ذكاء فني يُراعي وظيفة الصحافة الاستقصائية، باعتبارها معنية بكشف واقع ما يجري، ثم ترك الجمهور ليستنتج ويربط ما شاهده في الفيلم بما يدور في واقعه اليوم. وما يدور في الواقع اليوم هو أننا أمام فصيل مسلح يدَّعي احتكار تمثيل الجنوب، بينما يعجز عن تقديم نموذج إداري يراعي التكوين القبلي والتمثيل الجغرافي لقوى الجنوب كافة. وبهذا فإنه يُمهِّد الطريق لصدامات محتملة لن تكون أقل كارثية مما حدث بالأمس، وما الصدامات الأخيرة في شبوة والمهرة، والممتدة لسنوات، بل ومحاولاته السيطرة على حضرموت، سوى مؤشرات لما تُنذر به الأوضاع الحالية.

 

لا يبدو للمتابع اليمني أن "عيدروس الزبيدي"، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، يملك الجرأة كي يستلهم دروس الماضي المتضمنة في فيلم "الإخوة الأعداء". وإذا ما وقع الفيلم مصادفة أمام ناظريه، فهل يا تُرى يملك الرجل ما يكفي من الخيال ليستنتج احتمالات ومآلات الطريقة التي يرسم بها مصير الناس في الجنوب؟ وهل يملك الرجل شجاعة التوقف لينأى ببلاده عن مصير مشابه لماضي البلاد الدموي؟ وهل يملك أساسا قرار مخالفة توجهات داعميه الإقليميين؟ كل هذه الأسئلة يطرحها الفيلم ضمنيا، لكنه يترك الجواب عنها مفتوحا. (4)

 

لغز مقتل "عبد الفتاح إسماعيل"

 

في جزئه الثاني، أورد الفيلم شهادات صادمة عن مذبحة 13 يناير، منها شهادة الضابط "مبارك سالم أحمد"، قائد حراسة "علي ناصر محمد"، الذي تحدث بوضوح تام عن التعليمات التي تلقاها من قادته العسكريين ذاكرا إياهم بالاسم، وشارحا خطتهم لتصفية أعضاء المكتب السياسي من خصوم "علي ناصر محمد". لقد ظلت هذه الشهادة محجوبة لمدة 26 عاما، أما وقد خرجت إلى النور فإنها بمنزلة وثيقة مرئية ودليل قاطع يوضح ملابسات المذبحة ويحدد المسؤولين عنها بدقة أكبر. ولم يكتفِ الفيلم بشهادة قائد حراسة الرئيس آنذاك، بل أضاف إليها شهادات أخرى عزَّزت من موثوقية السردية التي قدَّمها الفيلم لأحداث 13 يناير.

 

يُعَدُّ "عبد الفتاح إسماعيل" الشخصية اليمنية الأبرز من بين كل الشخصيات التي صنعت المشهد اليمني في الجنوب، فهو المُنظِّر السياسي والقائد الجماهيري والأب الروحي للحزب الاشتراكي اليمني. وينحدر "عبد الفتاح إسماعيل" من محافظة "تعز" الشمالية، وكان من أبرز ثلاث شخصيات شكَّلت الواقع الجنوبي، والوحيد الذي ظل مصيره غامضا بخلاف كل مَن قُتلوا في المذبحة، وما زالت حادثة مقتله لغزا لم تفك شفرته إلى اليوم. و"رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على نشوب الحرب الأهلية في اليمن الجنوبي، فإن هذه المرة الأولى التي يُفتَح فيها ملف مقتل مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني الجنوبي والرئيس السابق"، هكذا صرَّح آخر رئيس لجمهورية اليمن الجنوبي "حيدر العطاس"، ملمِّحا إلى ضلوع أمين عام الحزب الاشتراكي "علي سالم البيض" بالتورُّط في الجريمة، مما أثار جدلا واسعا بين اليمنيين، لا سيما أنها المرة الأولى التي يُصرِّح بها "العطاس" بتصريحات مرتبطة بالواقعة بعد مرور عقود عليها. وقد قال "العطاس" في حديث تلفزيوني قبل فترة قصيرة إن "سالم البيض" وبعض "الإخوان" أرسلوا "عبد الفتاح" إلى مكان تصفيته. (5)

 

تتطابق تلك الشهادة مع شهادة الرئيس الجنوبي الأسبق "علي ناصر محمد" في فيلم "الإخوة الأعداء". وعليه يصبح لدينا الآن شهادتان، إحداهما لشخصية حكمت بعد 13 يناير، والأخرى لشخصية حكمت قبل 13 يناير، وإحداهما من الطرف المنتصر، والأخرى من الطرف المهزوم في الأحداث. وقد أورد الفيلم مقتل "عبد الفتاح" وفقا للروايتين الرسمية والموازية معا. وبحث الفيلم في تقرير الحزب الاشتراكي والجماعة التي حكمت بعد انتهاء الأحداث، وجاء معها بالشهادة الموازية لـ"علي ناصر محمد"، مما يجعلنا أمام صورة متوازنة لم يخلص فيها الفيلم إلى نتيجة نهائية بشأن لغز مقتل "عبد الفتاح إسماعيل"، لكنه أوضح الصورة قدر الإمكان وقرَّب المتابعين من الحقيقة أكثر من ذي قبل.

 

يجدر هنا التنويه إلى طبيعة تصريح الرئيس "علي ناصر" حول واقعة مقتل "عبد الفتاح إسماعيل"، حيث قال بنبرة فيها لمز: "لقد ضاع بين الزحمة". ونفى الرجل أن يكون "عبد الفتاح" قد قُتل وفقا للرواية الرسمية، وأكَّد الرواية الموازية القائلة إن رفاقه المنتصرين قاموا بتصفيته بعد ذلك خشية أن يعوق تقلُّدهم المناصب بعد أن تضع الحرب أوزارها، لا سيما وهو أشدهم ذكاء، وعرَّاب السياسة الاشتراكية ومُنظِّرها الأبرز. ولعل أكثر تصريحات "علي ناصر" أهمية قد وردت في الجزء الثاني بخصوص تدخُّل طرف خارجي في المشهد كي يحسم حرب 1986 لصالح الطرف المنتصر في تلك الحرب. وأدلى الرجل بهذا التصريح دون أن يُحدِّد هوية هذا الطرف الخارجي، وإن صحَّت تصريحاته فنحن أمام لغز جديد يحتاج إلى الكشف عنه في المستقبل.

 

الوحدة اليمنية.. الحلم والغاية

 

لعل حادثة 13 يناير مجرد واقعة ضمن سردية أكبر تتمحور حول محنة الدولة اليمنية جنوبا وشمالا. وبين هذا وذاك، تكمن فكرة الوحدة بوصفها أهم قيمة مركزية كانت ولا تزال حلما وغاية لليمنيين جنوبا وشمالا. وقد كان آخر سؤال وجَّهه مخرج فيلم "الإخوة الأعداء" إلى الشخصية المركزية والضيف الأساسي في برنامجه هو سؤال الوحدة. ولم يكن السؤال استفسارا عابرا فحسب اختتم به الفيلم حديثه مع الضيف، بل لافتة مهمة تُلخِّص محنة اليمن بكامله. "هل ما زلت تؤمن بالوحدة؟"، هكذا سأل المُقدِّم الرئيس الجنوبي "علي ناصر محمد"، فأجاب الأخير: "نعم مع الوحدة العادلة"، وهو تأكيد مهم من شخصية جنوبية بارزة. ورغم أنه لم يعد فاعلا في الجنوب اليوم، فإن حديثه ذا وزن بحكم تاريخه الطويل والمؤسس في العقود الأخيرة من تشكُّل الدولة اليمنية في جنوب اليمن.

 

يقول "علي ناصر محمد": "قضينا أكثر من 20 عاما منذ استقلال الجنوب حتى عام 1990 نحلم بالوحدة، ثم قضينا أكثر من 20 عاما منذ حرب الانفصال عام 1994 ونحن نقاتل من أجل الانفصال". لقد سعت الفصائل اليمنية للوحدة بطريقة عشوائية، وسعت للانفصال بالطريقة نفسها. (6) وخلاصة القول إننا أمام واقع يمني لا يزال ضبابيا دون طريق واضح أمام اليمنيين جنوبا وشمالا. ولعل الجنوب يعاني من قابلية التفكك أكثر من الشمال اليوم، وليس المقصود هنا قابلية الجنوب بوصفه كُتلة واحدة للانفصال، بل قابليته هو نفسه للتشرذم من داخله. فمَن يتأمل واقع الجنوب اليوم يرى البُعد الشديد عن حلم الدولة المستقرة، أيًّا كانت الصيغة التي تربطه بشمال البلاد، في حين أنه يقترب يوما بعد يوم من مصير التشظي والعودة إلى التكتلات القبلية والمناطقية على غرار أمسه القريب، الذي حاول فيلم "الإخوة الأعداء" بجزأيه الأول والثاني أن يُسلِّط الضوء عليه؛ لعلَّ المُمسِكين بمصير الجنوب اليوم يعون دروس الماضي قبل فوات الأوان. (7)

 

_____________________________________________

 

المصادر

 

(1) راجع تصريح الرئيس "علي ناصر محمد" في برنامج المتحري بفيلم "الإخوة الأعداء". https://youtu.be/Yp0ML7AwESQ

(2) ويكيبيديا، تاريخ ثورة 14 أكتوبر 1967، استقلال الجنوب اليمني.

(3) الطغمة، والزمرة. مصطلحان سياسيان شائعان في اليمن، ويستخدمان لتوصيف أطراف الصراع بعد مذبحة 13 يناير. الطرف المهزوم (علي ناصر وجماعته) يوصفون بـ"الزمرة" الهاربة، والطرف المنتصر (علي سالم البيض وجماعته) يوصفون بـ"الطغمة" الحاكمة.

(4) من تقرير منشور في موقع المصدر أونلاين عن التمويل الخارجي للمجلس الانتقالي.

(5) من مقالة "جمال شنيتر"، مراسل صحفي وتلفزيوني، المنشورة على موقع "إندبندنت عربي" بعنوان: "عدن تستعيد البحث عن القاتل المجهول بعد 35 سنة".

(6) من تصريح "علي ناصر محمد"، مرجع سابق.

(7) شاهد برنامج المتحري (الإخوة الأعداء).

الجزء الأول

الجزء الثان


التعليقات