[ التقرير الإسرائيلي تطرق لنقاط كثيرة ]
اليوم سوف نقرأ استراتيجية اسرائيل لتقوية نفوذها جنوب البحر الأحمر، ولأن جنوب البحر الأحمر يعني أيضا الجمهورية اليمنية، فسوف نتأمل بموقعها من النفوذ الذي تخطط اسرائيل لتحقيقه.
وقع في يدي بحثا طويلا عن أهمية البحر الأحمر لإسرائيل من المعهد الإسرائيلي للدراسات الأمنية (INSS)، ويُعرف باسم “Israel in the Red Sea Arena: An Updated Maritime Strategy”.
أولا: نظرة عامة على بحث اسرائيل الاستراتيجي
المؤسسة: المعهد الإسرائيلي للدراسات الأمنية (INSS).
الوثيقة: مذكّرة استراتيجية (Memorandum 248، ديسمبر 2025
الموضوع: تحليل دور البحر الأحمر كـ ساحة استراتيجية جيوسياسية جديدة ودوره في الأمن القومي الإسرائيلي.
أهمية البحر الأحمر للعالم:
1- البحر الأحمر أصبح محورا عالميا للسلطة والتنافس بسبب موقعه الحيوي في سلاسل التجارة العالمية (نحو ~17 ٪ من التجارة البحرية).
2- يربط بين أوروبا، آسيا، أفريقيا، وقناة السويس، وبالتالي له قيمة استراتيجية عالية.
3- المنطقة ليست فقط ممرا تجاريا، بل ساحة قوة ونفوذ دولي بين الولايات المتحدة، الصين، روسيا، ودول إقليمية.
1- الملاحة البحرية والتجارة
يشكل شريانًا حيويًا لأمن الطاقة والتجارة، ما يعني أن أي اضطراب يؤثر على الاقتصاد العالمي والإسرائيلي تحديدًا.
2- التهديدات الأمنية
هناك تهديدات مباشرة ومتزايدة لأمن الملاحة، خاصة في مضيق باب المندب جنوب البحر الأحمر، بسبب أنشطة الحوثيين بشكل أساسي، والتهديدات الإيرانية المباشرة وغير المباشرة في المنطقة.
3- الفرص الاستراتيجية لإسرائيل
يرى البحث فرصا لإسرائيل لبناء شراكات دفاعية ومدنية مع دول شرق أفريقيا، دول الخليج، والولايات المتحدة لتعزيز سيطرتها البحرية ومواجهة التهديدات.
التركيز على اليمن والحوثيين
اسرائيل قد حزمت أمرها على أن صراعها مع الحوثيين ونظام إيران الحالي قد أصبح صراعا وجوديا.
وعلى أن التحركات الحوثية أحد أبرز مصادر عدم الاستقرار في البحر الأحمر ومنطقة باب المندب.
وعلى أن كل المنطقة حول باب المندب يجب أن تكون منطقة نفوذ للبحرية الاسرائيلة لتمارس هذا الصراع.
نقاط بارزة:
1- الحوثيون يشكلون تهديدا مباشرا للملاحة البحرية الدولية، إذ هاجموا سفنا دولية في المنطقة وخاصة منذ أواخر 2023
2- هذه الهجمات ليست فقط تهديدا لحرية الملاحة، بل تؤثر على التجارة الدولية واقتصاد قناة السويس ومصر، وتُقلّل من حركة السفن عبر الممرات البحرية.
3- بالرغم من أن إسرائيل ليست الطرف الأقرب للتهديد (وقنواتها الرئيسية للموانئ في البحر المتوسط) فإن استمرار الهجمات يُلحق أضرارا غير مباشرة بالقدرات التجارية والاقتصادية الإسرائيلية، ويُجبرها على إعادة الحسابات الإستراتيجية.
ثانيا: اسرائيل تريد نفوذا استراتيجيا حول اليمن
التقرير لا يذكر اليمن صدفة، مثلما يذكر چيبوتي واريتريا والصومال، ولكن يربطه مباشرة بـ: باب المندب وأمن الملاحة والتهديدات القادمة من “جهات غير دولية” (يقصد الحوثيين).
البحث يقترح عددا من السياسات المستقبلية لإسرائيل:
1- تعزيز التعاون الدفاعي
تقوية التعاون مع الولايات المتحدة ودول عربية وإفريقية لتأمين البحر.
تطوير قدرات بحرية أكثر تركيزًا على مراقبة وتأمين خطوط الملاحة.
2- الاندماج في التحالفات الإقليمية
البحث يرى أن التعاون الإقليمي (من ضمنه دول خليجية مثل السعودية والإمارات) قد يكون أحد مفاتيح تحقيق استقرار دائم في البحر الأحمر.
3- البعد الاقتصادي والاستثماري
ليس فقط الأمن: هناك فرص اقتصادية كبيرة لزيادة دور إسرائيل في الاقتصاد البحري والدعم اللوجستي.
4- اسرائيل تحتاج تموين
البحرية الإسرائيلية لا تستطيع العمل طويلا في جنوب البحر الأحمر دون نقاط تموين ودعم لوجستي
— إيلات وحدها غير كافية
—العمليات البحرية بعيدة المدى تحتاج: موانئ صديقة وخدمات تموين، صيانة، استخبارات، تبديل أطقم.
— تحتاج اسرائيل نقاط ارتكاز على الأرض غير معلنة.
ثالثا: أهمية الإمارات لإسرائيل
القارئ الذي يفهم اليمن والبحر الأحمر، وهذا يعني أنت وأنا وكل اليمنيين، يُمكنه أن يستخرج من بين السطور أن كل تحركات الإمارات في اليمن ابتداء من 2012 أيام "خلية أبو ظبي" الذي كان بداخلها محمد ناصر وزير دفاع الفترة السياسية الانتقالية في حكومة باسندوة وانتهاء باقتحام عيدروس الزبيدي والمجلس الانتقالي لحضرموت في الأسبوع الماضي.
التقرير يذكر الإمارات مرارا باعتبارها:
— دولة ذات حضور بحري متقدم
— لاعب محوري في الموانئ
— شريك أمني مرن وقابل للتنسيق
— الإمارات تسيطر فعليا على القرار الأمني في عدن والمخاء وسواحل الجنوب وسقطرى (وهذه جوهرة الجواهر).
تناغم الإمارات مع إسرائيل
الإمارات ليست مجرد دولة معها اتفاق سلام مع اسرائيل وليست مجرد دولة مُطبّعة، ولكنها أيضا دولة مندمجة أمنيا مع إسرائيل، والإمارات تمتلك خبرة إدارة “الوجود غير المعلن” في البلاد التي تخترقها، من خلال الهلال الأحمر، والاستثمارات، والشركات، واقوات العميلة المحلية قوات محلية، والغطاء التجاري / اللوجستي، وإدارة الموانئ.
— الميناء يعادل وزارة خارجية، والساحل يعادل قاعدة نفوذ، دون رفع علم دولة الإمارات.
— الإمارات قد حققت نفوذا قويا في الجنوب وفي المخاء وحول باب المندب، وهذا مفيد لإسرائيل.
—النتيجة على أرض الواقع:
الإمارات، كنز ثمين لإسرائيل، وهي الجسر المثالي لتحقيق الردع والنفوذ الإسرائيلي، وتحقق لإسرائيل أهدافها من تموين، وتنسيق،
رابعا: الاستنتاج الاستراتيجي الكبير
جنوب اليمن يُدار كـ”أصل استراتيجي بحري”، لا كجزء من دولة، ووليس لأي طرف: لا يخص المجلس الانتقالي… ولا يخص الحكومة اليمنية،…. ولا حتى للسعودية.
بل كـ:
عقدة لوجستية في معركة البحر الأحمر، لخدمة أغراض الإمارات… ولكل الاعتبارات التي ذكرناها فهي تخدم أغراض اسرائيل أيضا.
سقطرى تحديدًا: لماذا هي الأخطر؟
— بحث INSS يتحدث عن: المراقبة - السيطرة - العمق البحري
— وسقطرى، تشرف على: - خليج عدن - المحيط الهندي
خطوط الملاحة القادمة من آسيا وعلى هذا فهي مثالية: للاستطلاع والتموين وكنقطة عمق خلفية آمنة.
وعلى هذا فإن الإمارات تدري ماذا تفعل في سقطرى وفي المطار الحربي الذي عملته بالمشاركة مع اسرائيل في جزيرة عبدة كوري المجاورة.
المسألة ليست صراع عبثي على سقطرى، ولا “حب إماراتي للبيئة” كما يُسوَّق، ولا عشق لشجرة "دم الأخوين" النادرة التي تلطشها وتزين بها ميادين وشوارع أبو ظبي.
خامسا: ماذا يعني هذا لليمن (سياسيا لا عسكريا)؟
ابتسامة معجونة بالمرارة.
وهنا تبدأ ابتسامات اليمنيين الباهتة المعجونة بالمرارة:
1- اليمن غائب كدولة، حاضر كجغرافيا
2- القرار البحري يُصاغ في تل أبيب، يُنفذ عبر أبوظبي، ويُمرر محليا بأدوات جنوبية وبكانتون المخاء.
3- أي حديث عن: سيادة أو انفصال أو تمثيل جنوبي، إنما هو هو ضجيج محلي فوق مسرح دولي أكبر.
سادسا: أضواء اسرائيلية ساطعة على اليمن
أجزاء من تقرير INSS نفسه يمكن استخراجها حرفيا ثم تحويلها إلى ترجمة سياسية-تحليلية تتعلق مباشرة بالنقاط التي طرحتها أعلاه: التموين البحري، المواقع الجغرافية في الجنوب، ودور الإمارات/اليمن.
هذه فقرات فعلية من الوثيقة مع ترجمة سياسية لا لغوية (أي ما تعنيه عن قوة ذراع أبو ظبي الطويل وأصابعها الرشيقة الخفيفة التي تسرق الكحل من العين في سياق النفوذ الإماراتي وعملية التمكين الاستراتيجي):
— البحر الأحمر ليس مجرد ممر ملاحي، بل ساحة صراع نفوذ حقيقي.
— الدول المطلة عليه ليست كلها مستقرة، مما يخلق فراغًا استراتيجي يمكن لجهات خارجية (وليس فقط دول) أن تملأه بوجود فعلي ومؤثر.
— هذا ما يفسر الهيمنة الإماراتية في الموانئ الجنوبية—ليس صدفة، بل نتيجة خلل في الحكم المركزي يجعل الجنوب قابلا للربط في شبكة نفوذ خارجي.
اليمن هنا يُصوَّر كمصدر تهديد… لكن هذا في الواقع باب مفتوح لنفوذ خارجي: التهديد يولد حاجة—وحاجة الطرف الأقوى توفر من يزوّده بالأمن واللوجستيات، والإمارات تضع نفسها كأنه “الطرف الأقوى” في الجنوب، فبالتالي:
—تمنح استقرارا بحريا
—توفر موانئ بديلة
—تسيطر على نقاط استراتيجية
—تُصبح شريكا مطلوبا لأمريكا وأوروبا وحتى لإسرائيل
عندما يجمع تحليل INSS بين نقص السيطرة اليمنية المركزية على الجنوب، و التهديدات الحوثية في باب المندب، والحاجة الإسرائيلية لنقاط تموين، وصراع القوى الكبرى في البحر، فإنه يرسم بالتفصيل ما يفعله اللاعب الأقوى (الإمارات) على الأرض:
الإمارات تملي قواعد اللعبة في الموانئ الجنوبية (عدن، المخاء، سقطرى) ليس لأنها "غاوية شر" وتريد "فركشة" اليمن، بل لأنها سمكة قرش جائعة نهمة لا تشبع وقد وجدت اليمن لقمة سائغة وفي متناول اليد وتقوم بما يفعله أي ناهش مفترس predator بفريسة سهلة prey، في أي زمان وأي مكان.
الإمارات، تقتنص هذه المواقع اليمنية بغرض:
— ملئ الفراغ الأمني البحري.
— وتوفر لأطراف مثل إسرائيل “خيار بديلا” للتموين والدعم، مقابل مصالح مباشرة أو مقابل استخدام اللوبي اليهودي داخل أمريكا.
— اكتساب الإمارات للدور اللوجستي الهام في اليمن وجنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي الذي تحتاجه أوروبا وأمريكا وحتى الهند والصين وروسيا والذي لا يمكن تجاوزه ويوفر فرصة للمقايضات وتبادل المصالح.
—نحن لا نقول أن الإمارات تشتغل لحساب اسرائيل، ولكنها توفر لإسرائيل بيئة تشغيل مثالية لتحقيق أهدافها.
الخلاصة السياسية المركَّزة
بحسب تحليل INSS، قدرة إسرائيل على العمل في الجنوب ليست ممكنة من دون شركاء أقوياء يمتلكون بنية تحتية، نقاط تموين، وقدرة تشغيلية على الأرض.
الذي يدور في ذهن اسرائيل، ولا يذكره التقرير، هو أن هذه الشراكات في الجنوب والمخاء لا يمكن الحصول عليها من اليمن الحكومة، بل من الإتكاء على كيانات تمتلك النفوذ الفعلي على الموانئ — وهو دور تقوم به الإمارات اليوم.
بهذا المعنى، الإمارات ليست مجرد “شريك مهم”، بل أصبحت العمود الفقري للسيطرة على منطق البحر الأحمر الجنوبي لصالح القوى البحرية الخارجية.