تمثّل مدينة تعز وامتداداتها الواسعة قلب اليمن الكبير، ففيها أكبر تجمع سكاني، وهي الرافد الأكثر سخاء وخصوبة للبلاد، فالقيم المادية والروحية والثقافية النابعة من تعز تشمل عموم الوطن اليمني، وتفيض بخيرها العميم على كامل الأقاليم الجغرافية المحيطة باليمن، وقد عرف التعزيون بصبرهم على المكاره، ونزعتهم السلمية، وإسهاماتهم الكبيرة في ترسيخ قواعد ثقافة المواطنة العصرية.
حتى أن المدن الكبرى في اليمن عرفت أهل تعز بوصفهم روافع علمية ومعرفية وثقافية وتجارية وحرفية، وكانت البيئة الخصبة، وثقافة العمل القادمة من زراعة المدرجات وتربية المواشي، وأنماط البناء ذات الصلة بالطبيعة.. كانت كل هذه العوامل التاريخية بمثابة المقدمة لهذا التميز الذي اتصفت به تعز وأهلها، ومنها تشكل النبع الفياض بالخير العميم على اليمن وأقاليم الجوار العربي والإفريقي.
ولهذا لم يكن غريباً أن يشكل أهل تعز الطلائع المتقدمة في الحراك السلمي التواق لمجتمع ينعتق من استبداد القرون، ولم يكن غريباً أن تشكل النخب التعزية رؤوس حراب فاعلة في الرؤى والأفكار الجديدة، وأن يتقمصوا حالة العصف الفكري المتجدد على مدى عقود من الأحلام بمجتمع متقدم.
هذا النفس الحضاري المقرون بالنزعة السلمية، والتأقلم مع الأحوال بخيرها وشرها، اعتبره العصبيون القبائليون المقيمون في تراث الموت والعدمية مناسبة للتغوّل على أهل اليمن، واستبدال الحكمة بالهمجية، والانتماء للأدنى، بقدر التخلي عن الأعلى، وكانت تعز وما يجاورها من وديان التاريخ اليماني الخصيب ملعباً للنهب والفوضى العصبوية المجافية للحضارة، وقد استمرت هذه المتوالية الجهنمية مئات السنين، وأخذت بعدها الأكثر خساسة في عهد الإمامة المتوكلية التي تريد اليوم إعادة إنتاج مفرداتها العقيمة عبر حوثيي الزيدية المتأبية على حكمة الجغرافيا والتاريخ، والتي تحولت لتوها والساعة إلى مخلب قط لمشاريع شوفينية فارسية. وكان من الطبيعي أن تجد الإمامة الجديدة حليفاً لها في منظومة صالح الفاسدة، وأن يعقدا تحالفاً جهوياً سقيماً، وأن تطال حراب موتهم اليومي تعز، وبتركيز مقصود، واستباحة شاملة، وحرب معلنة على المواطنين هناك.
بالأمس القريب كانت عدن، واليوم تلتحق تعز بذات السلوك المشين لميليشيات الظلام والإرهاب، فالعدوان الغاشم على تعز رسالة يوجهونها للبقية، وعلى هؤلاء جميعاً أن يعرفوا مغزى الرسالة، وأن يستوعبوا أن تعز ليست الخاصرة الضامنة لانتصار الشرعية والمستقبل فحسب، بل لدحر الحوثي ومناصريه المقيمين في ضلالات العدم الديماغوجي.
تعز لا تمثل أكبر تجمع سكاني حضري وزراعي وحرفي فقط، بل تمثل قلب اليمن النابض، ومن دون تحريرها الناجز لن تنعم عدن بالسلم، ولن يتحقق توق أهل صنعاء للخروج من أسر صالح والحوثيين. في تعز يمكن صنع خيارات المستقبل، وتتويج انتصار الحلفاء العرب ضد الظلام والهمجية، ومن دونها يستحيل ذلك.
لذلك وجب القول إن معركة تعز لا تقل عن معركتي عدن وصنعاء، وإن كماشة الحضور الأفقي لقوات التحالف العربي والجيش الوطني والمقاومة لن يتم تتويجه بالنصر المؤزر إلا عبر بوابة تعز.
هذا كلام لا أقوله استناداً إلى آمالنا السياسية وأمانينا المخملية، بل لأن تعز هي مفتاح الأمان لعدن ولحج والضالع، وهي الوسيلة لتحرير الحديدة من قبضة الميليشيات (الحوثصالحية)، وهي التي ستفتح باباً سالكاً لسقوط صنعاء سقوطاً حراً وصاعقاً.. ذلك ما تشي به الوقائع، وتلك هي الحقيقة، ولم يبق سوى الشروع في التركيز على معركة تعز الحاسمة والتي تذكرنا بمعركة ستالينغرد التي أسقطت العنجهية النازية ذات يوم قريب في التاريخ.
نقلا عن الخليج الاماراتية