بين الحوثيين والحمينيين تتداعى الأوضاع الميدانية في اليمن باتجاه المزيد من التعقيد الملغوم بسلسلة من المناورات السياسية الخائبة، والشاهد على ذلك ما جرى ويجري في مدينة تعز.. الخاصرة الكبرى لليمن الكبير، ففي تعز بالذات تسكب ميليشيات صالح والحوثي حمم موتها العدمي على رؤوس العباد والبلاد، وكأنها تكرس ثقافة الاحتقار والكراهية لمنطقة كانت ولا تزال تنتج الخيرات المادية، وتضخ اليمن بخيرة العلماء والكوادر المهنية، وتعشق السلم والسلام، ولم يعرف عن تاريخها الخاص التمردات القبائلية الميليشياوية النفعية المعروفة في بيئات العصبيات المجافية لثقافة العمل.. المقيمة في ثقافة النهب والسلب.. تلك البيئة التي أنتجت أمراء الحرب المدججين بألقاب الدولة ونياشينها، ممن حولوا الدولة إلى مجرد ضيعة انتفاع صغيرة يديرونها بعقلية الناهبين والمستفيدين.
معركة تعز استمرار منطقي لمعركة عدن، فكلتا المدينتين تمثلان اليمن الكبير، وتختزلان الوجه المجافي لثقافة العصبيات القبلية المأفونة بالنزعة المناطقية القبائلية.. الرافضة لمشروع الدولة ومنطقها الخاص في التسيير الرشيد، وتعميم النظام والقانون.
ذلك هو المحرك الأكبر لمعركتي عدن وتعز، وما يجري على خط الضالع والتهائم اليمنية وحضرموت وشبوة ومأرب والبيضاء ورداع. استطراد تلقائي لذات الحقيقة التي لن تقف عند تخوم المناطق الجنوبية والوسطى كما يتوهم صناع الموت والدمار، بل ستطال صنعاء وكامل إقليم(آزال) في شمال الشمال اليمني، فلم تعد صنعاء مدينة تحتكرها فئة باغية ظالمة، بل مدينة كل اليمنيين القادمين من مختلف أقاليم الجغرافيا الثقافية الانتروبولوجية اليمانية.
ما يفعله تحالف صالح والحوثيين تعبير مكثف عن مغالبة منطق التاريخ والجغرافيا.. بل كامل الموروث الثقافي اليماني المتجسد في علوم الرأي، وتعددية الأنساق الاجتهادية الكلامية، والوسطية الدينية.. التي طالما تأبت ورفضت تحويل المقدس إلى إيديولوجيا مدنسة بالتعصب.
ما يفعلونه محاولة يائسة لإعادة اليمن قروناً إلى الوراء، فالحوثيون الطارئون على الحكمة التاريخية اليمانية ومن يلتحق بركبهم الظلامي، يحاولون إعادة الإمامة التاريخية اليمانية بقالب جديد يعيد إنتاج النظام الإيراني. متناسين أن هذا النظام لا يختصر الزيدية السياسية في الحاكمية البدائية المفصلة على مقاسات استيهام سلالي بذاته فحسب، بل يضعها في جحر ضب غائر، ليقتل فيها مرئيات الاعتزال الكلامي العقلاني، ويحولها إلى مجرد رافد بائس لنظام طهران.. المنتهك لمذهبه بالذات، فالشيعة الجعفرية لا تقول بالمرجع الديني الجامع للبعدين الديني والدنيوي، بل تعقد مسافة فاصلة بين هذين البعدين، وهو ما تم انتهاكه في النظام الراهن، وبهذا المعنى لن يتمكن الحوثيون من تجاوز عتبة الانغلاق والانحباس السياسي بقدر إقامتهم في الموديل الإيراني وألاعيبه البهلوانية.. ذلك الموديل الذي يحول رئيس الدولة ومن يتبعه في مؤسستي الرئاسة والحكومة إلى مجرد منفذين طائعين لأوامر المرشد الأعلى الصادر عن الإيديولوجيا الدينية في أكثر أشكالها فجاجة ومغالبة لأسباب العصر والتطور والنماء.
في مثل هذه الحالة هل نتوقع من تحالف صالح والحوثيين قبولاً بمرئيات العملية السياسية المجيرة على المبادرة الخليجية، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن الدولي؟
أشك في ذلك، ودليلي على ما أذهب إليه بأن تحريك الملف السياسي يتحول لدى صالح وأنصاره من الحوثيين إلى فرصة لمزيد من خلط الأوراق الميدانية، كما أنهم دأبوا على تجسيد الباطنية السياسية في صورتها الأكثر خساسة، من خلال سلسلة موافقاتهم السابقة على مجريات المصالحة الوطنية الرشيدة، في ذات الوقت الذي كانوا يخططون فيه لعكس ذلك تماماً.. وهاكم المحطات: التوقيع على المبادرة الخليجية والعمل على تقويضها.. القبول بالمشاركة في حكومة الوفاق الوطني إثر المبادرة والعمل في ذات الوقت على تعطيل أعمالها.. المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني وتلغيمه من الداخل، وأخيراً وليس آخراً القبول المريب بمرئيات قرار مجلس الأمن مع محاولات يائسة لابتكار شروط ضمنية مجافية لنص القرار وجوهره.
من غرائب التاريخ ودهائه الماكر أن الحوثيين الخارجين من إقليم (آزال) يجدون النقيض التاريخي لهم في الحمينيين الخارجين من ذات الإقليم، والفرق الجوهري أن الحمينيين صادرون عن حكمة التاريخ.. يعشقون جمال الحياة.. لا علاقة لهم بالتعصب وضيق الأفق، حتى إنهم أبدعوا نصوصاً شعرية غنائية ارتقت بفن الشعر اليماني إلى مصاف الفن الأندلسي، وبالمقابل لا يعرف الحوثيون الشعر، ويتنكرون للموسيقى، ولا يرون في الوجود جمالاً، بل عبوراً طارئاً فوق جسر من الموتى والأشلاء.