حين أنشأ الشيخ مقبل الوادعي مركزه العلمي في صعدة بداية ثمانينات القرن الماضي، كان يؤسس محطة مفصلية في تاريخ التيار السلفي باليمن، فالمركز، ببرنامجه الصارم وانغلاقه على منهج واحد، شكّل تياراً واسع الانتشار، خرّج دعاة وشخصيات تجاوز تأثيرهم حدود المنطقة ليصل إلى الداخل اليمني والخارج. ومع مرور الوقت، أصبح المركز عنواناً لطريقة في التفكير والتربية والاصطفاف.
هذا المركز كان حاضنة لكثير من الوجوه التي صعدت لاحقاً إلى واجهة السلفية اليمنية، ومن بينهم يحيى الحجوري وهاني بن بريك. الأول بقي وفياً للنهج التقليدي للوادعي، مركزاً على التعليم والفتيا، مع بعض الاحتكاك بالشأن العام فرضته عليه الظروف، فيما دخل الثاني في مسارات مختلفة، حيث انخرط في العمل السياسي والأمني وارتبط بتحالفات إقليمية معقدة على شخص مثله.
اختلاف المصير بينهما يكشف أن المركز لم ينتج نسخة واحدة من الداعية السلفي، بل وضع بذوراً أعاد كل تلميذ توظيفها بحسب طموحه ومجاله، وظروفه.
لكن ما يثير الانتباه اليوم هو موقف هاني بن بريك من مشروع الحجوري لتأسيس مركز مماثل في يافع؛ فالرجل الذي تشكّل وعيه الديني في مدرسة الوادعي، يعارض بشدة أن تُعاد التجربة في مكان آخر، وهذه المعارضة لا تعبر عن نقد علمي، ولا تشكل اعترافا بفشل الفكرة، وإنما تبدو أقرب إلى حسابات سياسية وصراع نفوذ داخل البيت السلفي، حيث يخشى بن بريك أن يظهر منافس يزاحمه في الشرعية الدينية والرمزية الاجتماعية، في منطقة نفوذه الدعوي ومجال حركته الأمنية.
المفارقة تكشف جانباً من طبيعة هذه المراكز، فهي لا تخرج أفراداً متشابهين في المواقف، لكنها تقيّدهم بحدود معينة تجعل خلافاتهم تدور في الإطار نفسه. ما يجمعهم هو التكوين المغلق، وما يفرقهم هو توظيف هذا التكوين في معارك متناقضة، ليس للمدرسة الفكرية ولا الانتماء فيها نصيب، وهكذا تصبح المعرفة أداة صراع أكثر منها وسيلة بناء، ويظل التلميذ القديم مشغولاً بمواجهة زميله بدلاً من الانفتاح على حاجات مجتمعه.
هذا يعيد طرح السؤال الأهم عن جدوى هذه المراكز؟ هل تهيئ الأفراد لخدمة مجتمعهم بعقل منفتح ووعي يوازن بين الدين والحياة؟ أم أنها تنتج دعاة يفتقرون إلى القدرة على الحوار مع محيطهم، فيتحولون بسهولة إلى أدوات ضمن مشاريع سياسية أو أمنية؟ التجربة اليمنية تشير إلى أن هذه المراكز، رغم ما قدمته من حيوية دعوية في بعض المراحل، خلقت في المقابل مساحات جديدة من التوتر والاصطفاف، وحركة خلافات دائمة حتى تكاد أن تشبه وجه الماء الفائر.
بالقليل من التأمل نلاحظ أن خطورة هذه المراكز تتشعب من طبيعة مناهجها إلى ضيق أفقها العلمي، وليس انتهاء بالسياق الذي تعمل فيه، فحين تضعف الدولة وتفقد أدواتها في ضبط المجال العام، تتحول بعض المؤسسات القائمة على الولاء العقائدي إلى بديل جاهز للعمل، وتصبح المراكز نقاط تجنيد من غير وعي حتى الطلاب الذين جاؤوا بحثاً عن العلم الشرعي يجدون أنفسهم منخرطين في تشكيلات مسلحة، يواجهون مجتمعهم بدل أن يخدموه، وهكذا يتجاوز دور المركز حدود التعليم، ليتحول إلى مخزن بشري يُفتح بقرار خارجي أو محلي، ويُستخدم لتعطيل حياة المجتمع وعرقلة عودة الدولة، وصناعة حرائق صغيرة على امتداد خارطة البلاد تستهلك الجهود وتضيع فرصا مهمة يحتاجها المجتمع للحاق بمستوى المنطقة على الاقل
لا تحتاج هذه المراكز إلى تمويل ضخم كي تبقى فاعلة، فبنيتها العقائدية توفر الأرضية الأساسية من يقين ديني مغلق، وولاء يتجاوز الانتماء الوطني، وشعور بالتفوق على المجتمع المحيط، عند هذه النقطة، تصبح الكلفة المادية هامشية؛ قلبل من المساعدات، صالات نوم مشتركة، ووجبات طعام بسيطة تكفي لبقاء العشرات أو المئات داخل دائرة الاستقطاب. وهكذا، وبأقل الموارد، يتحول طالب العلم المحدود الأفق إلى جندي عقائدي، جاهز لأن يُستثمر في معارك لا يملك قرارها ولا يدرك أبعادها.
باعتقادي أن إعادة النظر في تجربة مركز الوادعي وأمثاله ليست مسألة تقييم لشخصية أو حكم على خريج بعينه، بل مراجعة لطريقة في إنتاج الوعي وتشكيل الأجيال؛ فإذا بقيت هذه المراكز تكرر ذات الأسلوب، فإنها لن تخرج سوى أجيال متجددة من الصراعات، وإن تغيرت الوجوه، أما إذا تحوّل التعليم الشرعي إلى مجال يتسع للتنوع والاجتهاد والارتباط بحاجات الناس، فحينها فقط يمكن أن يتجاوز حدود التلقين إلى فضاء المشاركة والبناء، لينتج عقولا واعية قادرة على التفاعل مع مجتمعها وخدمته وتقبل الاختلاف الطبيعي فيه.
التجربة أظهرت أن ترك هذه المراكز تعمل بلا ضابط يحوّلها مع الوقت إلى قوى موازية للدولة، ويجعلها قابلة للاستثمار في صراعات لا تخدم المجتمع.
وإذا كان الغرض المعلن هو التعليم الشرعي، فإن ذلك لا يتناقض مع أن تكون خاضعة لإشراف حكومي مباشر، تشارك فيه وزارتي التربية والتعليم والأوقاف والإرشاد، كما أن تمويلها يجب أن يمر عبر قنوات شفافة وشرعية، حتى لا تتحول مواردها إلى وسيلة خفية لشراء الولاءات أو تغذية نزاعات جديدة.
هذا الضبط المؤسسي وحده يمكن أن يحفظ للمجتمع حقه في التعليم الديني، ويمنع في الوقت نفسه استغلاله لتقويض الدولة أو تهديد استقرارها، ويضمن تخريج رجال علم ودعوة لا يخوضون صراعات شبيهة بالتي يخوضها اليوم يحيى الحجوري وهاني بن بريك.
*مقال خاص بالموقع بوست.