بدون شك كان الخبر صادماً.لم يكن مجرد نبأ عابر في شريط الأخبار، بل خبر هزّ المشهد الإعلامي في اليمن. فتوقف بث قناة بلقيس الفضائية لم يكن خسارة فحسب، بل ترك شيئاً لم يكن في الحسبان وكشف عن آخر أشد وطأة منه.
مع توقف بث القناة ذهب البعض إلى تفسير التوقف بعوامل خارجية أو ضغوط إقليمية ودولية، وآخرون تحدثوا عن ظروف قاهرة كما جاء في بيان القناة نفسه. لكن المشكلة ليست هنا. فقبل أن يكون الأمر متعلقاً بموظفين ستبحث عنهم توكل كرمان بلا شك، أو بمنصة إعلامية ذات توجه سياسي محدد – كما هي حال كل القنوات الإخبارية – بل الأمر متعلق بشيء لم يكن في الحسبان وهو: حجم الفراغ المتروك في التعاطي مع تفاصيل المشهد اليمني ونقل هذه التفاصيل يومياً إلى بيت المشاهد اليمني.
لقد كانت بلقيس منبراً يومياً للتعاطي مع تعقيدات الوضع اليمني: السياسي، والأمني، والاقتصادي. كانت مساحة للمواجهة اليومية، وإن انطلقت من خلفية فكرية أو سياسية مختلفة وواضحة، إلا أنها اتسعت لمن يختلف معها. كانت تلك سمة مميزة فيها: مرونة استثنائية في التعاطي مع "الآخر" في الرأي، حتى لو كان خصماً إيديولوجياً. ناهيك عن امتلاك القناة لكادر احترافي جمع بين المهنية والكاريزما، وأدارت حوارات ساخنة في برامج مثل "المساء اليمني" و"فضاء حر"، حيث كان الجميع مدعواً لحضور هذا المساء الحواري: الناصري، والاشتراكي، والإصلاحي، والانتقالي، بل وحتى الحوثي رغم حدّة موقف القناة من مشروع هذا الأخير. هنا تكمن الخسارة الكبرى في اعتقادي، ولن تستطيع أي قناة يمنية أخرى ملء هذا الفراغ التي تركته بلقيس، وحتى استضافة هذا الطيف الواسع من الأصوات السياسية المتنافرة.
في هذه المناسبة يجدر بي الحديث عن تجربة شخصية. ففي عام 2018، أثناء اشتباكات في تعز بين المحور وأبو العباس، اتصلت بي قناة "الجزيرة" للظهور في نشرة التاسعة. وكنت يومها على رأس دائرة الثقافة والإعلام في منظمة الحزب، وفي اتصال التحضير للظهور، كان هناك توجيه ضمني واضح لتبني رواية محددة: إدانة كتائب أبي العباس بعينها في تلك الأحداث. كما أن التقرير المعدّ سلفاً في نشرة الأخبار تحدث عن مظاهرة حاشدة خرجت اليوم في مدينة تعز "ضد مليشيات أبي العباس"، بينما كانت الحقيقة أن المظاهرة نادت بوقف الاشتباكات دون تحميل طرف واحد المسؤولية.
على الهواء، صححت ما جاء في تقرير الجزيرة ورفضت وصف "التمرد" دون بيان رسمي صادر من حكومة الشرعية أو مؤسسة الرئاسة. وهذا جعل انزعاج قناة الجزيرة واضحاً على لسان الصحفي جمال ريان الذي كان يحدثني على الهواء. وبعدها لم يتم التواصل معي حتى اليوم.
في نفس الأحداث، استضافتني "بلقيس". وقلت نفس الكلام الذي قلته على قناة الجزيرة. ولكن الفارق أني لم أشعر بأي انزعاج من المذيع أو قناة بلقيس واستمر التواصل معي بشكل مكثف، وفي كل مقابلة كنت أعبر فيها عن رواية الحزب الاشتراكي وموقفه من أي قضية أو حدث أو تطور في المشهد السياسي اليمني. وعلى نفس الصعيد وجدت كل المكونات نفس المساحة للتعبير عن رأيها عن طريق شخصيتها المستضافة. هذه الحقيقة تجعل توقف بث قناة بلقيس خسارة لليمنيين، تتجاوز بكثير خسارة شخصية مؤسستها توكل كرمان.
لم أكتب هذه السطور بدوافع الألم الناتج عن اختفاء صوت إعلامي من المشهد السياسي في اليمن، بل كتبت لأن ما يؤلم أكثر من هذا الصمت المفاجئ لقناة بلقيس هو الصوت الذي ارتفع ليعلن الفرح بذلك الصمت وهذا الاختفاء. لقد وجدت انطباعاً – لدى بعض الصحفيين والإعلاميين وحتى الحقوقيين والسياسيين – يعبر عن السعادة والارتياح بخبر توقف بث قناة بلقيس. هذا بالنسبة لي ليس شيئاً عادياً بل سلوكاً يستدعي القلق الكبير لأنه يكشف حقيقة التناقض الصارخ لدى هؤلاء المعول عليهم.
بمعنى آخر هذا الابتهاج يجعلنا أمام ضحالة وعي النخب وزيفها الحقيقي وعدم أهليتها لخوض معركة الحرية والكرامة. وأنا هنا لا أتحدث عن ثقافة العوام أو انطباع المواطن البسيط، بل أتحدث عن النخب التي تضع نفسها في المقدمة أو ترى لنفسها هذا الاستحقاق الذي يضعها في مقدمة الصفوف.
بيت القصيد: كيف لصحفي يدّعي المهنية أن يهلل لإسكات صوت قناة فضائية، حتى لو اختلف معه جذرياً؟ كيف لناشط حقوقي أو سياسي يتغنّى بالحرية والديمقراطية أن يرى في انسحاب منبر إعلامي من الساحة اليمنية – بغض النظر عن توجهه – أمراً يُحتفى به ويبعث على السعادة، والابتهاج وحتى الشماتة؟!
هذا الانطباع يكشف انفصاماً نخبوياً خطيراً. يكشف في حقيقته الهوة الكبيرة بين شعارات حرية الرأي والتعبير التي يرفعها مثل هؤلاء في وضح النهار، وبين سلوكهم الحقيقي الذي يظهر في عتمة الليل. إنه في كل الأحوال يعري أولئك الذين يقدمون أنفسهم كمناضلين تقدميين من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية، بينما تنم تصرفاتهم عن عقلية إقصاء لا تختلف في جوهرها عن تلك التي يحاربونها في شعاراتهم وليس في سلوكهم ومواقفهم.
توقف "بلقيس" جعلني أدرك تماماً حقيقة الاختبار العملي لمبادئنا المعلنة نظرياً. فهو ليس اختباراً لموقفنا من توجه القناة التي نختلف مع المنبر السياسي الذي يقف خلف تأسيسها فحسب، بل هو اختبار لالتزامنا الحقيقي بمبدأ واحد بسيط ومعقد: هو حق الاختلاف في إطار الحوار الذي سوف يؤسس شكل المستقبل في اليمن.
ختاماً، إذا كان غياب صوت قناة بلقيس يمثل خسارة مؤلمة، فإن الأكثر إيلاماً هو ظهور أصوات تزغرط لهذا الغياب. وإذا كان هذا هو الذي أسعدهم مثل هؤلاء، فإن الحزن الحقيقي يكمن في غياب ثقافة التمدن، وقيم الحرية داخل نفوس تلك النخب قبل أن يكون غياباً في أثير قناة بلقيس الفضائية.
*من حائط الكاتب على فيسبوك