من لا يمتلك شجاعة الاعتراف بنشوئه خارج الشرعية سيبقى أسير هذا النشوء لأن من يهرب من السلام إنما يهرب من مواجهة الصورة الأكثر صدقاً عن نفسه.
أتصور أنه في المجتمعات التي يختلط فيها صوت الحقيقة بضجيج الشعارات، يصبح تفكيك الوعي السياسي ضرورة أخلاقية لازمة. فكل خطاب يعد بالسلام من خارج شروطه، ويحمل في بنيته ما يناقضه، لا يكشف عن أزمة سياسة عميقة فحسب، بل عن مأزق أعمق في بنية الوعي ذاته: وعي يعيد إنتاج القوة كبديل عن الشرعية، والهيمنة كبديل عن الدولة، واليقين الأيديولوجي، أو المناطقي، كبديل عن العقل.
ومن هنا ينبثق السؤال الذي يفتح هذه المقالة، كيف يمكن لمشروع يقوم على نفي الدولة أن يتحدث باسمها؟ وكيف يمكن لجماعة تستمد بقاءها من استمرار الأزمة أن تدعي السعي إلى نهايتها؟
هذه المفارقة ليست مجرد حدث سياسي، بل علامة على وعي مضطرب لا يستطيع أن يرى في الآخر شريكاً في المواطنة، ولا في الدولة إطاراً جامعاً، ولا في السلام إلا هدنة تستثمر لتعميق السيطرة.
في الواقع هذا النص التحليلي محاولة لقراءة تلك المفارقة ضمن السياق اليمني، قراءة تتجاوز السجال السياسي وما يحدث على الأرض بما في ذلك ما حدث في حضرموت والمهرة ومغادرة رئيس مجلس القيادة الرئاسي عدن إلى الرياض مع رئيس حكومته، إلى مساءلة البنية التي جعلت من الشعار قناعاً، ومن الهدنة استراتيجية، ومن الأزمة، استناداً إلى السلاح، ضرورة وجودية.
في الأزمنة التي تتكاثر فيها الشعارات كما تتكاثر الأوهام، يصبح من الضروري تفكيك الخطابات التي تتزين بألفاظ السلام بينما تخفي في جوهرها نزوعاً صريحاً إلى الهيمنة. ولعل التجربة الحوثية في اليمن تقدم نموذجاً مكثفاً لكيف يمكن لوعي مغلق أن يعيد إنتاج ذاته باعتباره "رسالة خلاص"، في حين أن الواقع يكشف عن أن هذا الوعي نفسه أحد أهم أسباب الخراب الذي يعيشه الناس.
فالسلطة التي تنشأ من فوهة البندقية تفقد، بحكم الولادة، أي عمق أخلاقي يحميها من الانزلاق إلى العنف. إذ لا يمكن للقوة، في اعتقادي، مهما اختلفت ذرائعها أن تشيد فضاءً إنسانياً قابلاً للحياة، لأنها تنتج في جوهرها اغتراباً عن المعنى، اغتراب الجماعة عن المجتمع، واغتراب الإنسان عن ذاته كمواطن يمتلك حقه الطبيعي في الحياة الكريمة.
وفي الحال اليمنية، تحول شعار الحوثية من لغة ترفع في سياق الاحتجاج إلى أداة صارمة للمصادرة. وتحول الحديث عن السلام من تعبير عن توق إنساني إلى واجهة دعائية تبرر الحرب نفسها. هكذا صار الشعار وسيلة لإخفاء واقع الانقلاب لا لتفكيكه، وذريعة لطلب الاعتراف لا مقدمة للسلام.
من هنا ينتقل النقاش من السياسي إلى الوجودي، إذ تواجه الجماعة الحوثية سؤالاً لا يمكن الهرب منه، كيف لجماعة قامت على تقويض الدولة أن تتعايش مع مفهوم الدولة ذاته؟ وكيف يمكن لمن استمد بقاءه من دورة صراع دائمة أن يجد معنى للسلام خارج ما يفرضه من مكاسب آنية؟ هذا السؤال، في عمقه، ليس وصفاً لمأزق سياسي بل لوضعية وعي مأزوم ومستمر.
فالخلاف في اليمن، في سياقه العام، لم يعد بين أطراف سياسية تتنافس على برامج، بل بين مشروع يرى الدولة بوصفها عقداً اجتماعياً يضمن المساواة ومشروع آخر يرى السلطة ميراثاً سلالياً تشرعنه القوة. وهنا يبرز جوهر الأزمة، انقسام الوعي بين منطق المواطنة ومنطق الغلبة، بين شرعية تقوم على القانون وسلطة أمر واقع تقوم على السلاح.
لكن المشروع الذي يرى الدولة بوصفها عقداً اجتماعياً يضمن المساواة ليس كل أطرافه السياسية تتنافس على برامج، ثمة من يسعى فيه إلى فرض سلطة أمر واقع بقوة السلاح. وأي مشروع داخل الشرعية، مهما كان، يريد فرض سلطته بقوة السلاح لا شك سيقود في سياق رد الفعل إلى تعقيد ما هو معقد كتداعيات حتمية لهذا الفرض، وأشرت ضمن مقالتي قبل الماضية في "اندبندنت عربية" إلى أن "اليمن يقف أمام مفترق لا يحتمل المراوغة، إما أن يتقدم نحو مشروع وطني يعيد إنتاج وحدته السياسية والأخلاقية وإدارة الخلافات والاختلافات بحكمة، أو يترك مصيره لعناصر التفكك والتيه التي تتكاثر كلما غاب القرار".
وهذا الأمر - بالتأكيد - ينطبق على ما حدث في حضرموت والمهرة أخيراً، إذ فرضت قوات مسلحة تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي سلطتها كأمر واقع بقوة السلاح. وفق وكالة "سبأ" الحكومية "دعا رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي ضمن لقائه خلال الإثنين الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري مع سفراء الدول الراعية للعملية السياسية في اليمن، وذلك بحضور رئيس مجلس الوزراء سالم صالح بن بريك، المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف موحد برفض منازعة الحكومة لسلطاتها الحصرية، وممارسة ضغط علني لعودة القوات الوافدة من خارج محافظتي حضرموت والمهرة، ودعم جهود الدولة والسلطات المحلية للقيام بواجباتها الدستورية في حماية المنشآت السيادية، وتعزيز جهود التهدئة ومنع تكرار التصعيد"، مؤكداً أن "الشعب اليمني وحكومته قادرون على ردع أي تهديد، وحماية المركز القانوني للدولة"، ومحذراً من أن "سقوط منطق الدولة في اليمن لن يترك استقراراً يمكن الاستثمار فيه، لا في الجنوب ولا في الشمال"، مجدداً دعوته "إلى تحمل المسؤولية الجماعية، لمنع انزلاق البلاد إلى مزيد من التفكك والفوضى".
بعبارة أخرى أدق وأوجز، أي مشروع في اليمن يفرض سلطته بقوة السلاح سيقود مشاريع أخرى إلى فعل الأمر نفسه.
لكن هذا أمر لا يبدو أنه في دائرة اهتمام المجلس الانتقالي الجنوبي نهائياً، إذ اعتبر رئيسه عيدروس الزبيدي عضو مجلس القيادة الرئاسي أن ما حدث في حضرموت والمهرة انتصارات تستوجب التهنئة، وقال خلال اليوم التالي، الثلاثاء التاسع من ديسمبر الجاري، خلال اجتماع ضم أعضاء هيئة رئاسة الانتقالي، كرد على ما طرحه رئيس مجلس القيادة الرئاسي "الجنوب اليوم يقف أمام مرحلة مصيرية (ووجودية) فرضتها معادلات الواقع السياسي والعسكري. المرحلة القادمة ستكون مرحلة عمل مكثف، لبناء مؤسسات دولة (الجنوب العربي) القادمة وفق أسس حديثة تضمن الكفاءة والشفافية والمشاركة المجتمعية".
بالعودة إلى الحوثية باعتبارها محور هذا النص التحليلي، أتصور أنه لا يمكن النظر إليها بوصفها مجرد جماعة متمردة، بل بنية فكرية وسياسية يتغذى وجودها على استمرار العنف. فالحرب ليست حدثاً طارئاً داخل خطابها، بل شرط بنيوي لشرعية وجودها. إذ كلما امتد الصراع وازداد تعقيداً داخل المناطق غير الخاضعة لسيطرتها كما هو ماثل أخيراً في ما قاله رئيس مجلس القيادة الرئاسي ورد رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، استطاعت الجماعة إعادة إنتاج نفسها، وكلما اقترب السلام بدا ذلك تهديداً لمبررات سلطتها.
وعليه تتضح ملامح المأزق الأكبر، جماعة لا تستطيع تعريف نفسها إلا في سياق الأزمة، فتتحول المأساة من كونها ظرفاً سياسياً إلى أداة للبقاء يساعدها في ذلك بالطبع الصراع المحتقن داخل جبهة من يواجهها، وهذا يشير في تصوري إلى خلل أعمق في الوعي داخل شمال اليمن وجنوبه على حد سواء، وعي يرى في القوة بديلاً عن المعنى، وفي السيطرة بديلاً عن الدولة، وفي الأيديولوجيا بديلاً عن العقل.
ومن هنا - تحديداً - تتولد المفارقة، كيف لجماعة تتنفس من هواء الانقلاب أن تتحدث عن السلام؟ وكيف لطرف أو لأطراف داخل جبهة الشرعية ترى أن ما تقوم إنما هو في سياق مرحلة وجودية بالنسبة إليها؟
إن خطاب الحوثية كما يتجلى منذ صعودها إلى واجهة الأحداث في الجمهورية اليمنية، قائم على معادلة حادة، ترفع شعار السلام لتكسب الوقت، وتستخدم الوقت لتعزيز سلطة أمر واقع ولدت خارج مفهوم الدولة. وهكذا يصبح السلام مجرد واجهة إضافية لتدوير الهيمنة. في حين تشير أدبيات المجلس الانتقالي الجنوبي إلى سعيه لإقامة "الجنوب العربي" إذ لا يعترف بـ"يمنيته" مطلقاً، وهو بذلك يقدم نفسه ضد إعلان نقل السلطة وضد المرجعيات المتفق في شأنها إقليمياً ودولياً.
لقد كشفت تجارب الأعوام الماضية هذه الحقيقة بوضوح استخدام الوقت دائماً لتعزيز سلطة الأمر الواقع. ومنذ انقلابها على الدولة بقوة السلاح خلال الـ21 من سبتمبر 2014، لم تظهر الجماعة التزاماً بأي اتفاق سياسي، بل حولت كل مبادرة إلى فرصة لترسيخ شبكة سلطتها. وحتى "اتفاق ستوكهولم"، الذي كان يمكن أن يخفف معاناة الملايين في هذا البلد المغلوب على أمره، انتهى إلى مزيد من الابتزاز باستخدام لقمة العيش كوسيلة سياسية.
وهذا السلوك في اعتقادي لا يبدو حالاً عرضية، بل يعد امتداداً لبنية فكرية إقصائية ترى في الدولة خصماً لا إطاراً جامعاً. ففي عالم الحوثية إن جاز لي التعبير لا يوجد مجتمع سياسي بل جماعة فوقه، ولا توجد مؤسسات بل أدوات تسخر لخدمة السلالة، ولا يوجد سلام بل هدنة تستثمر في توسيع النفوذ وحفر الخنادق وتكديس السلاح. هذا هو باختصار كل ما في الأمر.
لقد بادرت السعودية، ومعها المجتمعان الإقليمي والدولي، بجهود متكررة لفتح مسارات السلام ووضع خريطة طريق لعلها تمهد السير نحو عملية سياسية تقود إلى حل سياسي، وتنهي معاناة اليمنيين كافة، لكن الحوثية لم تبد يوماً تجاوباً حقيقياً، بل قابلت تلك المساعي بمزيد من المراوغة والارتهان لطهران.
في الواقع قابلت الحوثية تلك المبادرات بمنهج واحد، المراوغة. فهي لا ترى في التسوية فرصة للخروج من المأزق، بل تعد خطراً على مشروع يرتبط عضوياً بإرادة خارجية تتغذى على الفوضى. بعبارة أخرى أدق، ترى في أية تسوية أنها تقود إلى حل سياسي نهاية لوجودها.
ولذلك يصبح خطاب السلام الذي ترفعه الجماعة ليس سوى قناع موقت لإخفاء عجزها عن التحول إلى كيان سياسي طبيعي. فمن يعيش على وهم القوة، وأي طرف آخر يسعى إلى العيش على وهم القوة، لا يرون أن التاريخ لا يحمي من تجاهل الحقائق. ومن يرفضون المصالحة مع الدولة يرفضون في جوهر الأمر، المصالحة مع ذواتهم ومع مفاهيم السياسة الحديثة.
في الواقع من لا يمتلك شجاعة الاعتراف بنشوئه خارج الشرعية سيبقى أسير هذا النشوء. لأن من يهرب من السلام، في نهاية المطاف، إنما يهرب من مواجهة الصورة الأكثر صدقاً عن نفسه.
*نقلا عن إندبندنت عربية