مناجم الوطن وطيور الكنارى!
الأحد, 05 ديسمبر, 2021 - 11:56 مساءً

أن تحضر ندوة عن الأدب فى هذا الوقت فذلك يعنى أنه مازال فى قلبك متسع للفرح بزمن يسوده سواد الحرب. وخلال الأيام الماضية كنت محظوظا بأن أسمع لأدباء وفنانين، بعد حوارات لا تنتهى عن الحروب والتوترات السياسية. وليس أصعب من مهنة تجعلك تنام على تقارير كلها أرقام وتصحو على موجز للأنباء حول آخر الضحايا. ولكنه واقع صار يحاصرنا مهما تكن الوظيفة .
 
ولأن ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال جعلت رنين الحدث يلاحقك أينما كنت، ومهما تكن شغلتك. فأنت ملاحق بهموم العالم أينما كنت . وأتذكر قبل ثمانى سنوات مضت أنى كنت أذهب إلى مقر الجامعة العربية فى القاهرة واستمع من سائق التاكسى الذى يوصلنى كل صباح لنشرة مفصلة، تبدأ بالأحداث السياسية ولا تنتهى بصراعات الكرة! وكنت أضحك على هذه العادة العربية وهى كيف نغرق جميعا بهموم بعيدة معظمها محبط ولا ننشغل بتطوير ذاتنا. وألهمنى الحديث آنذاك كتابا ساخرا ووجعا مستمرا.
 
الآن صارت الأمور أكثر تعقيدا، رغم أن ما مر لا يزيد على عقد من السنين ولكنه بأحداثه كأنه قرن من الزمان. ولا ينام المرء إلا على وقع كوارث و لا يصحو إلا على حوادث لا تنتهى. لهذا عندما قيل لى إن جلسة هذا الاسبوع أدب واستماع للفن قلت تلك فرصة لا تُضيع !. وحسب أهل الفن رأيتنى أقول فى سرى ( يا فرحة ما تمت ) حيث ما إن تستمع لأول زفرة ألم حتى تجد نفسك فى شباك الهم العام، وأكثر حضورا فى خريطة الوجع، كون المبدع يبقى الأكثر قدرة على تصوير الوجع، والأكثر عرضة لهذا الألم من غيره، ولهذا تجده الصوت الأكثر تذمرا من غيره. ولم تعد مقولة شاعر الهند طاغور الجميلة حول لا يهمنى من الذى يحكم شعبى ما دمت أنا الذى أكتب أغانيه، مجدية فالاغانى سقطت إلى الحد الذى يجعلك تستنجد بالشرطة لحماية الذوق العام! فهذا زمن مقلوب اول ضحاياه الشعراء وآخرهم من بقى من الغاوين!!.
 
لذا لم تعد الجلسة رومانسية كما تمنيت عن طيور الحلم، ولا عيون القلب، وحتى عندما استحضر البعض عمق الموسيقى المشترك بين المشرق والمغرب، اختتمها شاب بموشح عن وجع زمن الطوائف وضياع الأندلس، و رأيت نفسى أدخل فى محاضرة عن السياسة وكنت أريد بها أن أعلى من شأن الفن والنأى بالجلسة عن وجع يوميات القهر المتفاقمة، لكنى وجدت نفسى متلبسا بالهم العام وشرح الحقيقة، التى تزيد الوجع ولا تثير الطرب فقد تبدل الحال واندثر فيه زمن كانت فيه القدوة التى يصدرها المجتمع للأجيال الصاعدة، هى الأدباء والفنانين ، وولى وقت كان الناس ينتظرون فيه قصيدة شعر تقلب الشارع، أما الآن فالشارع مقلوب دون شعراء. وأيام كانت الجريدة تفتتح صفحتها بمقال أو قصيدة وتنتهى بلوحة تشكيلية، وكان عمل المسرح نضالا وتثقيفا يجمع ما بين قدرة الحزب وسمو المدرسة، الآن ضاعت المدارس فى اونلاين وإنترنت وصارت الأحزاب جزءا من ديكور الذكريات.
 
ومع كل ذلك أرى نفسى مشدودا بحبل الأمل وأن كل ذلك سيعود حيث يبقى الفن أساس النهوض الحضارى، وكل ما يجرى من فوضى سينتهى كفوضى، وهو حالة طارئة، وتبقى الثوابت ومنها قيم الإنسانية وأهمية الإبداع، حيث يبقى الفنانون والأدباء هم الفئة الأكثر قدرة على استشعار الخطر قبل وقوعه، يعلنون تذمرهم ورفضهم، ويرفعون من صوت احتجاجهم ليس ترفا، ولكن من فرط إحساس بالمسئولية واستشعار لخطر داهم سيحدث.
 
من يتذكر قصة طيور الكنارى فى مناجم الفحم؟ تلك قصة معروفة لا ضرر من تكرار اقتباسها حيث ( كان عمّال التنقيب فى مناجم الفحم قبل عقود طويلة من الآن يتوجهون لممارسة مهماتهم اليومية داخل المناجم مصطحبين طيور الكنارى معهم حيث تحتوى المناجم تحت الأرض على الكثير من الغازات السامة والمميتة على غرار غاز أول أكسيد الكربون . ويعتبر هذا الغاز، الذى لا رائحة ولا لون له، مميتا جدا للبشر، لكن ما يميز طيور الكنارى عن البشر فى هذه الحالة هو أنها معرضة بشكل أكبر لخطورة هذا الغاز، وبالتالى فهى تظهر ردات فعل سريعة ومرئية استجابة لتعرضها له مقارنة بالبشر. ولهذا يصطحبها عمال المناجم معهم داخل المناجم من أجل إنذارهم فى حالة حدوث تسرب غاز مميت).
 
تلك القصة المعروفة والمتداولة، ورأيتنى أضيف مشبها انه وهكذا هو حال المبدعين فى أوطاننا إنهم طيور الكنارى التى تدرك تسرب الغازات السامة قبل غيرها، لذا تراهم يصرخون ويحتجون بطرق شتى لينتبه أهل المنجم لخطورة ما يجرى. ومن ذلك صراخهم حول تردى ذوق المجتمع وتعزيز ثقافة التسطيح والجهل. قلت حكايتى عن الطيور والمبدعين وبقى السؤال معلقا، وهو هل كان أهل المنجم يستجيبون لردات فعل طيور الكنارى؟ وينقذونها مع انقاذهم المناجم؟ أم يتركونها تموت؟ وينقذون المنجم فقط؟ ولم اجب لأن أول دروس الدبلوماسية الذى نتعلمه هو أن تجيد الإصغاء وتتقن الصمت.
*المصدر: الأهرام
 

التعليقات