يحيى صالح: "رائد العلمانية"... أم جنرال المزز؟
الأحد, 29 يونيو, 2025 - 02:25 مساءً

هكذا.. في بلد لم تعرف الدولة فيه يوما معنى الدولة، يظهر يحيى محمد عبدالله صالح ليقدم نفسه كرمز للعلمانية والمدنية والتحرر، وكأن البلاد كانت تنقصها هذه الكوميديا السياسية السوداء.
 
نعم..يخرج علينا الرجل الذي نشأ وترعرع في حضن أكثر أنظمة اليمن قمعا وفسادا ليقدم لنا نسخة كاريكاتورية من "العلمانية" على طريقة الأمن المركزي: قليلاً من الدبكة، فرقة موسيقية، وراقصة وفنانة.
 
طبعا يحيى صالح ليس مجرد ضابط عادي في جهاز الأمن المركزي، بل هو ابن النظام، ووريث ثقافته الأمنية الخشنة، التي تعرف القمع أكثر مما تعرف الدستور، وتُجيد فن الرقص السياسي فوق جراح وطن منهار.
 
لكن ما يثير الأسى (والسخرية في آن معا) هو محاولته الدؤوبة لإعادة تسويق نفسه كقائد تحرري، بعد أن أمضى عمره الوظيفي في حماية نظام( العائلة ) لم يكن يعرف من المدنية شيئا إلا قشورها.
 
يتحدث الجنرال السابق وكأنه قضى سنواته في النضال من أجل حقوق الإنسان، لا في إخماد المظاهرات بالهراوات والرصاص.
 
وفجأة أصبح بوقا للعلمانية، بعد أن كانت مهمته الأولى هي فرض "النظام العائلي" بقوة السلاح.
 
ويا للمفارقة! ما الذي تغير؟ لا شيء، سوى أن عرش العائلة تهاوى، وبات لابد من خطاب جديد لركوب الموجة.
 
بمعنى أدق يستثمر يحيى صالح اليوم في "الخطاب العلماني" كما استثمر من قبله الإسلاميون في شعار "الإسلام هو الحل"، بلا مشروع حقيقي، ولا وعي بالمفهوم، فقط وسيلة لتموضع جديد. يهاجم المطاوعة ويغازل بيروت، فيما يجد نفسه في مهرجانات الخطابة والأنوار، بين "المناضلات المزز" ونجوم الطرب، بينما الوطن الذي "يحبه" يُحرق بنيران الطائفية التي لم ينبس بكلمة ضدها منذ عشر سنوات.!
 
 ترى هل نسي يحيى صالح من أين أتى؟ أم يحاول أن ينسينا؟ ففي الوقت الذي كان الح..وثي يمزق اليمن شر ممزق، لم نسمع له سوى صوت صمت مدو.
 
وحين كان البعض يدفع حياته دفاعا عن الجمهورية، كان هو في بيروت يستلم وساما من حزب الله، الحزب الذي يدعم الانقلاب الطائفي في بلده. فهل هذا هو "رائد العلمانية" الذي يبشرنا بـ"الدولة التي لا تصلي"؟!
 
لكن أكثر ما يثير الحيرة ليس تحوله من جنرال أمني إلى داعية مدنية، بل جرأته في الحديث عن "العلمانية كحل"، بينما ماضيه وحاضره لا يوحيان إلا بالارتهان التام لمصالح خارجية، وطموحات عائلية قديمة تتلفح الآن بشعارات جديدة، دون أي تغيير حقيقي في المحتوى أو القيم.
 
على إن العلمانية، يا سيادة الجنرال، ليست حفلات في المعسكرات ولا استعراضات في المحافل، ولا حتى صراخا في وجه المطاوعة، بل منظومة متكاملة من المؤسسات، والقانون، والمساواة، والعدالة.
 
وهي لا تنبت في تربة الفساد، ولا تزدهر في ظلال العائلات الحاكمة. فكيف لك أن تدعو إلى العلمانية وأنت لم تنفك يوما عن توريث الدولة كما لو كانت عزبة خاصة؟!
 
والشاهد أن تسويق العلمانية على لسانك يشبه تماما تسويق الديمقراطية على لسان بشار الأسد. وهي في يدك لا تختلف كثيرا عن راقصة أمن مركزي في زي سياسي. خطاب بلا جذور، وشعار بلا مضمون.
 
ثم أين كانت هذه "المدنية" حين كنت تصف خصومك السياسيين بالعملاء والخونة؟ وأين كانت "العقلانية العلمانية" حين كنت تحرض على الإصلاحيين باعتبارهم أعداء للوطن؟ وكفرتم الحزب الإشتراكي اليمني بتهمة العلمانية بل لماذا كانت بوصلتك دائما مع التيار الأقرب للتهليل لك، حتى لو كان طائفيا، عنصريا، مدمرا لليمن والجمهورية معا؟
 
ولذلك ، يبدو أن أكثر ما يتقنه يحيى صالح ليس النضال ولا المدنية ولا العلمانية، بل لعب الأدوار. من جنرال مركزي إلى ثائر بيروتي إلى حليف لـ"المقاومة" إلى مؤلف خطب عن الدولة التي لا تصلي.
 
لكننا نحن – من نحلم بيمن مدني حقيقي – لا نحتاج جنرالات يحاضرون في فلسفة التعايش.بل نحتاج وجوها جديدة، نزيهة، من خارج حقبة الخراب.
 
أما من كان آلة القمع، فمكانه الطبيعي خارج المشهد، لا في طليعة "النخبة المدنية". !
 
وأما عن العلمانية، يا رائدها المزعوم، ليست رداء يُلبس على المقاس، ولا مطية تُركب للوصول إلى بيروت ومرابع المزز.
 
كما ليست رقصة في خيمة أمن مركزي، ولا تحالفا مع عمامة تُفجر المدن باسم "التحرير".
 
بل إن العلمانية لا تصافح المليشيا، ولا تعتذر للاستبداد، ولا تتكئ على بندقية مذهبية.
 
أي أنه في مجتمع قبلي مأزوم، تصبح العلمانية على لسان الجنرالات نكتة… تضحك منها حتى قناديل صنعاء.
 
فهي مشروع تحرر لا يرعاه رجال العائلة، ولا يُدار من كواليس فنادق بيروت..
 
بل يولد من أوجاع الناس، من دماء البسطاء، من حلم الدولة التي لا تُؤمِّم العقيدة ولا تُصادِر العقل.
 
فدع عنك هذا الادعاء، فالعلمانية ليست ملهاة لأمراء الخراب، ولا كرت عبور جديد لنفس الوجوه القديمة.!

لكن المشكلة ليست في الجنرال إذا غنى للعلمانية، بل في مثقفين يصفقون بانبهار، وهم يعرفون، ويقرأون، ويبتسمون بزاوية فمٍ مُرة؛
 
يعرفون أن ما يُقال ليس فكرا حقيقيا كنتاج معرفي، بل توزيع أدوار بل أنها شعارات على لسان من خنق الحريات بالأمس ويهلل لها من كتب عن الحرية صباحا، وسكت عن الدم مساءً.
 
فيا سادة التنوير الكاذب..العلمانية لا تُزرع في تربة النفاق، ولا تسقيها ضحكات المجاملة.
 
وهي حلمُ وطن لا تُنجبهُ قاعات الكوكتيل، بل يولد في ساحةٍ حرة، بلا سلاح، ولا عمائم... ولا ألقاب جنرالات.!
 

التعليقات