قفزت محافظة المهرة إلى واجهة الأحداث في اليمن، مسجلة حضورا طاغيا، بعد القبض على الشيخ محمد الزايدي، وما أعقب ذلك من أنباء وتطورات، وهي حالة معهودة في المهرة منذ اندلاع الحرب في اليمن، وجعلت هذه المحافظة البعيدة مسرحا للصراع، الذي ما إن يخمد حتى يندلع من جديد.
ولم تتوقف حالة الجدل عند حادثة اعتقال شيخ قبلي مدان بالعمل مع الحوثيين، بل تعدتها لتداولات إعلامية مغلوطة، واستحضار للوضع العام في المهرة، وبناء قراءات تحرف مسار ما يجري، وتتجاهل الدوافع الحقيقية، والمحركات الأساسية، والمستفيد من كل هذا.
صحيح وصل اليمنيون إلى حالة من الغضب والألم جراء ما جنته بعض الأطراف المحلية بحقهم طوال السنوات الماضية، لكن ذلك ليس مبررا لأن نخدع من جديد، سواء من طرف محلي أو خارجي، ولذلك أضع هنا بعض الملاحظات عن الوضع في المهرة، وهي حصيلة اهتمام بالوضع طوال الفترة الماضية.
اليوم يوجد في المهرة قوات تمولها السعودية اسمها درع الوطن، وهي فصيل مسلح من السلفيين الخالصين، وهي قوة يتم تحضيرها من فترة، لمهمة سعت السعودية لتحقيقها من فترة ولم تستطع، وهي السيطرة على المهرة عبر قوات تدين لها بالولاء.
وفي كل مرة يجري اختلاق أعذار في الجانب الأمني للتمهيد لهذه القوات، وتمكينها، وهي منفصلة تماما عن الداخلية والدفاع في الحكومة، ولها أهدافها الخاصة، وشعاراتها، وشبكتها السلفية الدينية الداخلية المرتبطة بباقي كيانات السلفية العسكرية بباقي المحافظات.
يقول المثل: من أكل من إناء الملك حارب بسيفه، وهذه القوات المدعومة اليوم من السعودية هي آخر ورقة للرياض هناك، وتمتلك كل المواصفات: قابلية للشراء - قابلية للطاعة العمياء لما يسمى ولي الأمر - متفلتة من المسائلة القانونية كونها غير رسمية.. إلخ.
يرأس هذه القوات قيادي سلفي يدعى عبدالله بن سديف الجدحي يحمل الجنسية السعودية، وقد بدأ البعض باستدعائه وقواته لوقف ما وصفه الخلل الأمني في المهرة، بعد لحظات من القبض على الزايدي.
ومنذ قيام هذا التشكيل المسلح تواترت الأنباء أكثر من أي وقت مضى لحوادث في المهرة، تارة حوادث الطيران المسير، وتارة تقارير القبض على سلاح في المنافذ، وكل هذه مقدمات وإرهاصات لتمكين هذه العناصر، واسدال الستار الأخير، وهي امتداد لذرائع سابقة نشطة في المهرة منذ اليوم الأول للتواجد السعودي.
ومن الملاحظ هنا أيضا أن المجلس الانتقالي في المهرة محجم، وهذا يعكس أمرين، الأول الرفض الشعبي، وثانيا الرغبة السعودية في عدم زيادة تواجد الانتقالي، وكذلك ذاكرة السكان الذين يرون في الانتقالي امتدادا لما فعله الرفاق بالمهريين في السبعينيات، ولذلك جرى انزال علم الانتقالي فورا من مؤسسات الدولة بعد لحظات من رفعه، خلال زيار الزبيدي.
عندما زار رشاد العليمي المهرة كان توجيهه واضحا للسلطة المحلية بعدم افساح المجال للانتقالي، والعليمي هنا ينفذ توجيهات سعودية.
وعندما زار عيدروس الزبيدي المهرة، وسعى لتقديم نفسه كرئيس، وهي الصفة التي يطلقها أنصاره عليه، انبرى له المحافظ محمد علي ياسر، وقال بأنه يستقبل الزبيدي كعضو مجلس القيادة الرئاسي، قاطعا بذلك الطريق على نشوة الانتقالي، وتصوير المحافظة بتبعيتها للانتقالي.
اليوم المهرة الوحيدة التي لايزال يرفع فيها علم الجمهورية اليمنية، ويعزف نشيدها الوطني، وتحضر الأحزاب فيها بفاعلية، ولم تتأثر بحالة الجمود كما في باقي المحافظات الجنوبية، ويتواجد فيها اليمنيون من مختلف المحافظات، ويعيشون دون مناطقية أو عنصرية، أو مضايقات، مثلما يتواجد جيش وأمن يرتدي اللباس الرسمي اليمني، ويعمل ضمن وظيفته القانونية الدستورية.
وهذا الوضع جعل البعض يطلق على المهرة باليمن الأصغر، وهو بالتأكيد ليس محل انشراح أو تقبل من البعض، ويسعون لنقل الفوضى إليه، وجعل المهرة تلحق بحالة الاضطراب التي تعيشها باقي المحافظات، خالية من أي مظاهر الانتماء للجمهورية اليمنية.
يهمس أحدهم بتواجد ما يصل لنحو عشرين جهاز استخباراتي دولي يعمل في المهرة، بعضها لدول عادية جدا، لكنها تعمل كوكيل لدول أخرى، وهذا ما جعل المهرة محط اهتمام خارجي، ووجدت دول تسلط الضوء على ما يجري هناك، من خلال مبعوثيها، لنذكر على سبيل المثال: اهتمام سويسرا وهي الدولة المحايدة بالوضع في المهرة، عبر مبعوثها، وغيرها من الدول الأخرى.
وثمة خطوة أخرى، اليوم من يدير المهرة هم أبنائها لأول مرة في تاريخ المهرة، من المحافظ، إلى الوكلاء، إلى قيادة الأمن، ومدراء المكاتب الحكومية وغيرها.
هذا الوضع جعل الجميع يستشعر المسؤولية في عدم انزلاق محافظتهم للفوضى، وبدا الجميع متماسك، وحريص على قطع أي محاولات للاضطراب، وهذه القيادات نفسها تتوزع على مختلف القبائل في المهرة، وبقدر ما تتولى مسؤوليتها بدافع العمل الوظيفي الذي يقتضي تنفيذ التوجيهات، تعمل أيضا بتوازن بين انتماءها القبلي، الذي يفرض عليها عدم الاصطدام المباشر.
يتداخل هذا الوضع مع حالة الوضع القبلي، لاتزال القبيلة في المهرة متماسكة أكثر من أي مكان آخر، بغض النظر عن نقاط الاختلاف، والتوجه السياسي بينها، ففي المهرة هناك عرف اجتماعي بأن المهري لا يقتل المهري، مهما كانت شدة الاختلاف، ولذلك تقل جرائم الصراع القبلي، وإن وجدت فسرعان ما يتم احتوائها، وتكون محل إدانة، واستهجان.
هذه الطبيعة القبلية لمجتمع المهرة ليست معزولة عن القبيلة في المناطق المحيطة بها، عبر نسيج من العلاقات مع مشائخ قبائل في محافظات يمنية أخرى، سواء شمالا أو جنوبا، والقبيلي ينطلق من مفهومه الخاص، في التعامل مع قبيلي آخر، ويشعر أن من الواجب النصرة، والموقف، والمناصرة تجاه أي شخص تعرض لأذى في نطاق أرضه ومكانه، فيسعى للتدخل، ثم يتم وضع الحلول، وبالتالي يعد الالتفاف مع الزايدي، جزء من هذه الذهنية، وانطلاقا من هذا التصور.
لذلك احتشد مشائخ من المهرة بمختلف انتمائهم السياسي، وولائهم الخارجي متوحدين في خانة واحدة رفضا لما يتعرض له الزايدي، ليس من منطلق الولاء للحوثيين كما يصوره البعض، ولكن انطلاقا من مفهوم التعاضد القبلي، الذي يجعل كل قبيلي يستشعر نفسه في مثل هذه الحوادث، وهي معادلة قريبة من مفهوم دين وسلف، أي أناصرك اليوم، فتناصرني غدا.
الذهنية القبلية تستشعر الأحداث، وتحرص على بناء تشابكات وتحالفات انطلاقا من شعورها بالمخاطر المحدقة، فعلى سبيل المثال النظرة لوجود موالاة للحوثيين في المهرة، ليست بتلك الدقة، وهي تلتقي في القاعدة الشعبية التي تقول: عدو عدوي صديقي، ولكن ذلك فتح مدخلا للبعض في إطلاق المبرر الجاهز، والتسويق لهذا الأمر، حتى بدا حقيقيا عند البعض، ولكنه في المقابل محل رفض لدى كثير من أبناء المهرة، الذين يدركون هذا الواقع، ويرفضونه أيضا.
يرغب الكثير من أبناء المهرة في تجنيب محافظتهم أي انزلاق نحو الفوضى، وبالتالي تأتي المسارعة لاحتواء أي خلاف، والغالبية منهم يرون أنهم يدفعون الثمن لوقوع محافظتهم في الطرف الأقصى من اليمن، وتدفع ثمن هذا أن تكون هي محصلة ونهاية لكثير من الأحداث.
فمن المهرة خرج علي سالم البيض (معلومة تحتاج لتأكيد)، وكثير من القيادات بعد حرب صيف 94م، ومنها كانت بوابة النجاة والخروج للرئيس عبدربه منصور هادي بسبب الانقلاب الذي حصل في صنعاء، وامتد لعدن، وغيرهم الكثير، ولذلك يرى السكان هناك أنهم لم يقفوا في طريق أي حد، وأن التعاضد القبلي يقتضي نصرة القبيلي، ثم للدولة تقرير ما تشاء لاحقا.
وثمة أمر آخر ويتعلق بالحضور الخارجي في المهرة، ويتصدر هذا التواجد الحضور السعودي، فالرغبة السعودية قائمة ومدفوعة بتنفيذ أجندتها القديمة الجديدة، وتسجل حضورا عسكريا مباشرا، وأوجدت شبكتها الخاصة من العاملين في دائرة نفوذها وتوجهها، مثلما خلقت مبررات البقاء الطويل، كالمشاريع المزعومة، ومنح المشتقات النفطية المقدمة، التي جعلت السلطات تتكل عليها، وتحت رحمتها، وصارت الكلمة الأولى لها، بالعديد من المظاهر، وموازين القوة.
ولذلك حتى السعودية نفسها مع طول فترة بقائها داخل المهرة، باتت تدرك وتعرف أكثر من أي وقت مضى ما يجري في المهرة بالضبط، ولديها القدرة الوافرة لتمييز الوضع وقراءة تعقيداته وتشابكاته، وبالتالي أعادت هندسة بقائها هناك، فانسحبت تدريجيا من المواقع العسكرية التي كانت تتمركز فيها بشكل مباشر، بعدة مديريات، وأبقت على تواجد حضوري داخل مطار الغيضة.
وبالطبع هناك أهمية توليها سلطنة عمان للمهرة، فهي تقع على شريط حدودي طويل معها، ولازالت الذاكرة محتفظة بمشاهد الحرب التي فجرتها جبهة التمرد في ظفار، وانطلاقها من اليمن، ولكن هذا الحضور يفرق كثيرا عن الدور السعودي، فهو بلا حضور عسكري مباشر، وبلا أجندة استحواذيه، ومشاريع تمكين بعيدة المدى، ويعمل مباشرة مع السلطات المحلية الحاكمة.
هذا الوضع للدور الخارجي قسم الولاءات في المهرة، لكن استفاد منه المجتمع المهري، الذي يتوزع وفقا لهذا الحضور، ومع ذلك لا يسمح بوصول الأوضاع إلى مرحلة الصراع البيني، وعلى الرغم من هذا التعدد في الولاءات، لم يحدث انصدام مباشر بين أنصار هذا الطرف أو ذاك.
وللتذكير هنا فالمنافذ البرية الدولية الوحيدة المتبقية لليمن المتصلة بالعالم الخارجي هي في المهرة، وهما منفذي شحن وصرفيت، وازداد نشاطهما وأهميتهما بعد انغلاق كافة المنافذ البرية، خاصة تلك المتصلة بالسعودية، ويمثلان اليوم شرايين حياة تربط اليمن بالعالم الخارجي، وتسهل وصول وخروج اليمنيين، وهو ما جعلهما هدفا مقصودا للسعودية منذ اللحظة الأولى بمبررات عديدة، وصلت حد التواجد العسكري المباشر داخلهما، وفي حال ارتفاع مستوى التوتر قربهما فذلك سيؤدي حتما لإغلاقهما، وهو ما سينعكس سلبا على اليمنيين في المقام الأول.
ومع هذا العراك المستمر في المهرة تلحظ حالة الهدوء وعدم تجاوز هذه الثوابت في مجتمع المهرة، وهي تتعامل مع الأحداث الجارية فيها، وتكاد تنعدم حالة التحيز والإساءة للمهرة بين أبنائها، أو التخندق ضد بعضهم، إلا من عدد محدود لا وزن له، بينما تأتي حالة نفخ النار هناك من طابور طويل من خارج المحافظة، بينهم شخصيات تعمل وكأنها في مهمة رسمية للحديث عن المهرة بانحياز واضح، سواء كان هناك حدث داخل المهرة أو لا، سواء كأشخاص، أو وسائل إعلام، وتدور في دائرة السعودية بالمقام الأول.
وفي المقابل ينزلق البعض تحت تأثير هذه الدعاية لرسم صورة مغلوطة بفعل دعاية الطرف الأول، ولا تدرك أنها تعمل بدون وعي معه، وأن المخاطر الناجمة عن هذا هو خسارة وتداعيات ستنعكس على الجميع لاحقا.
اليقين اليوم أننا نعيش الاضطراب بفعل مهدد واحد، وهو النفوذ الخارجي المتجذر، والقابلية المحلية للعمل معه بضعف وتابعية، وعدم إدراك أيضا، ما أوجد انقساما ينال من البلد وأبنائه في المقام الأول.