قبل أيام نشرت مقالًا بعنوان “ولازال السؤال يدور من أسقط الدولة اليمنية”، تناولت مسؤوليات السقوط الكبير الذي أصاب الدولة اليمنية في العام 2014، يوم سقطت صنعاء في يد جماعة الحوثي، وتصدّعت مؤسسات الدولة، وانهارت بنية النظام الجمهوري.
كان المقال محاولة لفهم كيف تداخلت الأخطاء والتواطؤات والعجز، وصولًا إلى لحظة الانهيار، التي لم يصنعها طرف واحد، بل ساهم فيها الجميع، ولكن بدرجات مختلفة.
وقد جاءت الردود كثيرة ومتباينة على مقالي الأخير والتغريدة السابقة التي حملت فيها صالح المسؤولية الكاملة، بعض الردود مؤيد، وبعضها غاضب، وبعضها مستفز، لكنها جميعًا حملت قاسمًا مشتركًا وهو أن هذا الملف لا يزال حيًّا، والذاكرة اليمنية لم تنسَ، والاتهامات لا تزال تتطاير في كل اتجاه.
لكن رغم تباين الزوايا، بقيت حقيقة واحدة تفرض نفسها، حتى على من يختلفون في التفاصيل وهو أن علي عبد الله صالح كان الفاعل الأبرز، والمُمهِّد الأخطر، والمسؤول الأول عن سقوط الدولة.
بل إن أحد أعضاء المؤتمر وأنصار صالح العتيقين كتب تعليقا في صفحتي قائلا أن صالح فعل ذلك من باب لعب الأدوار لا أكثر، وهذا تبرير غريب.
المهم أن صالح لم يكن مجرد رئيس سابق، بل كان مهندس المنظومة التي سقطت، وصانع النظام الذي انكسر خلال أكثر من ثلاثة عقود، لأنه لم يبنِ دولة، بل بنى شبكة وربط الجيش بشخصه، لا بالدستور وصنع مؤسسات على مقاس سلطته وعائلته، لا على مقاس الوطن. وعندما غادر الرئاسة عقب ثورة 2011، لم يغادر السلطة فعليًا، بل ظل يحتفظ بولاءات ضباط الجيش، ورجال القبائل، وشبكات المال، والإعلام.
وحين جاءت لحظة السقوط، لم يكن الحوثيون أقوياء، بل كانت الدولة ضعيفة، مفككة، مخترقة من داخلها.
لم تُهزم الجمهورية اليمنية في معركة، بل تم تسليمها باتفاقات خفية، وخطط انتقامية، شارك فيها صالح بوضوح. لقد كشف ذلك تقارير أممية، وسُجّل بالصوت في تسجيلات وُثقت، وبُثّ بعضها في فيلم “السلاح المنهوب” الذي أعددته أنا لقناة الجزيرة وغيرها.
كانت الخطة واضحة: استعادة النفوذ، حتى لو كان الثمن هو تسليم البلد لمليشيا طائفية مسلحة.
الأكثر من ذلك، أن صالح لم يكتفِ بتوظيف المؤسسة العسكرية، بل فعّل شبكة علاقاته القبلية التاريخية، واستدعى المشايخ، ورتّب مع الحلفاء، ووجّه القبائل إما لدعم الحوثيين أو لالتزام بالحياد، تمامًا كما فعل خلال حروبه السابقة.
ولكن هذه المرة ضد الدولة، لا ضد التمرّد، القبيلة التي كانت يومًا ما أحد أعمدة الجمهورية، تم استغلالها هذه المرة لتمرير مشروع إسقاطها، ولم يكن الأمر مجرد تساهل أو انكشاف، بل خطة مدروسة، بدأت بتحييد الجبهات، وانتهت بسقوط العاصمة، وتسليم مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى.
أما التحالف مع الحوثيين، فقد كان خيارًا محسوبًا. تحالف بدأ في السر، ثم أُعلن لاحقًا، وهدفه لم يكن بناء مشروع وطني، بل تصفية الحسابات مع من شاركوا في الثورة عليه، واستعادة ما فقده بعد 2011.
وقد فعل، وأوصل الحوثيين إلى قلب صنعاء، وظن أنه سيتحكم بهم من الخلف. لكن كعادته في اللعب بالنار، احترق في النهاية، وانتهى قتيلًا على يد حلفائه بعد أن أنهى مهمته، ومقتله بأيديهم لا يُلغي مسؤوليته السابقة.
في الردود التي تلقيتها، حاول البعض إعادة توزيع المسؤولية، وقال آخرون إن الجميع أخطأ. وهذا صحيح جزئيًا. نعم، عبد ربه منصور هادي كان رئيسًا ضعيفًا، مترددًا، غير قادر على المواجهة، وخاضعًا للتأثير الإقليمي.
نعم، حزب الإصلاح لم يمتلك قرارًا وطنيًا موحدًا، وارتبك في الحسابات، وتراجع عن المواجهة في لحظات مهمة.
نعم، الأحزاب التاريخية غابت، والنخب الإعلامية كان بعضها يزيف المشهد، والمجتمع الدولي تواطأ وصمت، ولكن لا أحد، من كل هؤلاء، امتلك ما امتلكه علي عبد الله صالح: النفوذ العسكري، الشبكات القبلية، الولاء المؤسسي، المال السياسي، وأدوات التخريب التي ظلت تعمل حتى بعد خروجه من الحكم.
لم يكن مجرد طرف في المعادلة، بل كان هو من أعاد خلط الأوراق، وفتح أبواب العاصمة، وأعطى الضوء الأخضر للانهيار، ليس الهدف من هذا المقال تبرئة أحد، ولا شيطنة أحد.
لا أحد بريء تمامًا، ولكن لا أحد مسؤول كما كان علي عبد الله صالح. فالسقوط الذي جرى كان نتيجة طبيعية لمخطط انتقامي بدأ منذ لحظة تنحيه، واستمر حتى لحظة مقتله. لقد أراد أن ينتقم من خصومه، فانتقم من البلد كله.
ولذلك، فإن كتابة الرواية التاريخية تقتضي تسمية الأشياء بأسمائها.
من أسقط الدولة؟
كثيرون ساهموا، لكن علي عبد الله صالح كان هو من أدار سقوطها، ومهّد له، وسهّله، ووظّف كل ما في يده من أدوات لتدميره. ولهذا، فإنه المسؤول الأول عن سقوط الدولة.