ذاكرة الخوف في زمن المشائخ
الخميس, 14 أغسطس, 2025 - 06:58 مساءً

على مدى ثلاثة عقود، لم تكن الدولة في اليمن سوى ظل هش يختبئ خلف نفوذ المشائخ وقوة القبيلة. في زمن علي عبدالله صالح، كان السلاح والسطوة أقوى من القانون، وكانت العاصمة صنعاء وبقية المدن رهينة مشاهد الاستعراض المسلح، وحوادث الخطف، والابتزاز، والتخريب الممنهج للبنية التحتية.
 
عندما نتحدث عن سطوة المشائخ في اليمن، وعن تسلطهم وتجبرهم ودورهم في تدمير الدولة وعرقلة تقدم البلاد إبان حكم الرئيس صالح، فإنهم كانوا بحق نموذجا صارخا لهذه الممارسات.
 
أتذكر أننا حضرنا ذات مرة عرس ابن محمد المقالح في صنعاء، في فترة كان كثيرون يرون فيه مثقفا يساريا محترما، قبل أن تنكشف صورته الحقيقية لاحقا. اجتمع في تلك المناسبة أغلب الصحفيين والمثقفين والكتاب والشعراء، إلى جانب بعض المشائخ والشخصيات الاجتماعية. وفجأة، دخل الشيخ محمد الشائف، نجل أحد كبار مشائخ البلاد، يرافقه عشرات المسلحين القبليين، متقدمين ومحيطين به من جميع الجهات.
 
كان المشهد صادما ومستفزا، لم يكن دخولهم أشبه بحضور مناسبة اجتماعية، بل وكأنهم اقتحموا ساحة معركة. المسلحون كانت أيديهم على أسلحتهم وكأنهم على وشك إطلاق النار في أي لحظة، فيما كانت تصرفاتهم مع الحاضرين  (وأنا بينهم)  تحمل قدرا كبيرا من الغطرسة والاستخفاف.
 
كان هذا مشهدا مقززا ، لكنه كان مألوفا آنذاك، إذ كان المشائخ يجوبون الشوارع بأسلحتهم الثقيلة والخفيفة، بينما القانون لا يُطبق إلا على الضعفاء.
 
هذا الشيخ وغيره من نظرائه كانوا على مقربة من رأس النظام، يتمتعون بنفوذ واسع وامتيازات مالية ضخمة من خزينة الدولة، ويحظون بدعم كامل من السلطة.
 
في مساء ذلك اليوم، كتبت مقالا قصيرا عن المشهد الذي رأيته. لكنني عشت بعده أسبوعا كاملا في خوف شديد،  أتوقع في أي لحظة أن أتعرض للاختطاف، خاصة أن الشيخ كان معروفا بعنفه تجاه من ينتقده.
 
لم يكن الأمر مقتصرا على المظاهر المسلحة، بل كان هؤلاء المشائخ يتبادلون إطلاق النار وسط العاصمة صنعاء إذا اختلفوا على ملكية أراضٍ تم السطو عليها، والدولة لم تكن تتخذ أي إجراء جاد ضدهم. وقد ظلت حوادث الخطف والابتزاز منتشرة في صنعاء بشكل شبه يومي، حيث كان رجال القبائل يسرحون ويمرحون بأسلحتهم أمام رجال الأمن دون أي تدخل يُذكر.
 
من بين تلك الحوادث المؤلمة، حادثة اختطاف طفل هو ابن صديق لي، على يد مسلحين قبليين يتبعون أحد مشائخ بني ضبيان – خولان، في محاولة للضغط على والده للتنازل عن أرض اشتراها بماله الخاص.
 
ظل الطفل قرابة ثلاثة أشهر في قبضة الخاطفين، بينما لم تتجاوز إجراءات الدولة تسجيل البلاغ وبعض التحركات الشكلية، وكان وزير الداخلية حينها رشاد العليمي، الذي أصبح لاحقا رئيسا للبلاد، يكتفي بإصدار التوجيهات دون أي خطوات عملية.
 
ولم تسلم حتى البعثات السياحية ، فقد شهدت العاصمة صنعاء وغيرها من المدن حوادث اختطاف السياح الأجانب  من جنسيات أوروبية وأمريكية، وكان الهدف في الغالب الضغط على الحكومة للإفراج عن سجناء قبليين أو الحصول على مبالغ مالية.
 
 ومن الأمثلة على ذلك اختطاف سياح ألمان في 2003، وخطف مجموعة من السياح الفرنسيين في 2008، وكلها حوادث كانت تُحل بصفقات ومفاوضات، دون عقوبات رادعة للخاطفين.
 
ولم تقتصر الأعمال التخريبية على البشر، بل طالت البنية التحتية للدولة، فقد شهدت البلاد عشرات الاعتداءات على أبراج الكهرباء، خاصة في مناطق عدة بمحافظة مأرب، ونهم بمحافظة صنعاء وغيرها من المناطق، حيث كانت قبائل تستخدم تدمير خطوط نقل الكهرباء كورقة ضغط على الحكومة.
 
ومن الأمثلة البارزة، انقطاع الكهرباء عن العاصمة صنعاء لعدة أيام في 2012 و2013 بعد استهداف أبراج نقل الطاقة في مأرب، وسط عجز كامل من الدولة عن حماية هذه المنشآت.
 
وكانت قبائل خولان وبني ضبيان، إلى جانب قبائل من نهم ومأرب والجوف والحداء، من بين أبرز الأطراف المتورطة في مثل هذه الأعمال، سواء في الخطف أو الاعتداء على الممتلكات العامة أو قطع الطرقات. وقد شكلت هذه الممارسات واحدة من أكبر العقبات أمام أي محاولة لإرساء الأمن أو بناء دولة القانون.
 
بعض هؤلاء المشائخ تمكنوا من الحصول على أسلحة ثقيلة، بما فيها مضادات للطيران، إلى جانب ترسانة من العتاد العسكري. لكن حين جاء الحوثي، تركوا كل ذلك وراءهم؛ كثير منهم غادر البلاد، والبعض الآخر انضم إليه، منتقلا من موقع النافذ المتسلط إلى مجرد جندي أو تابع مطيع في صفوفه.
 
كانت تلك الحقبة مثالا حيا على كيف يمكن لتحالف السلطة والقبيلة أن يهدم أسس الدولة ويحول القانون إلى أداة في يد الأقوياء.
 
 واليوم، بعدما تبدل المشهد تماما ، وسقط نفوذ أولئك المشائخ تحت أقدام الحوثي، يبقى السؤال: هل كان انهيار الدولة قدرا محتوما ، أم نتيجة طبيعية لتلك السنوات الطويلة من الفوضى والسطوة؟
 

التعليقات