لعنة حلّت على تعز منذ سنوات كغيمة سوداء تكبر سنةً بعد سنة، ويومًا بعد يوم، لتتسع حلقات الانتهاكات والتعسُّفات، وتغرق هذه المدينة في مستنقع الجرائم الذي تسيطر عليه مجموعة من المجرمين السُّفَلة وهوامير الفساد. هكذا صارت تعز بعدما كانت عاصمة الثقافة اليمنية.
بينما يقع واجب القيادات العسكرية والأمنية والسلطة المحلية بالقبض على هؤلاء القتلة وتقديمهم للقضاء لمحاسبتهم، وحماية المواطنين وإعادة الأمان لتعز، لكنها تقوم بحمايتهم والتستر على جرائمهم وتهريبهم من القضاء.
لم يَعُد غريبًا على تعز جرائم القتل، فهي ليست الأولى، قد سبقها العديد والعديد، مثل اغتيال المقدم عبدالله النقيب الذي لم يَمْضِ على اغتياله شهر، ولم يَمُرّ يومان على الضجة الفيسبوكية والغضب الرقمي حتى نسي الجميع الجريمة. وأيضًا اغتيال العميد عدنان الحمادي، صاحب الطلقة الأولى، كيف تم التلاعب بالقضية وتمويهها وإلى اليوم لا نعلم عن مصير القضية شيئًا. وكذلك اغتيال ضياء الحق، العقيد عبدالباسط القاضي، العميد عبدالله ناجي القيسي وغير هذه الجرائم الكثير. لكن لأول مرة يكون المجني عليه امرأة.
اغتيال إفتهان المشهري في وضح النهار، بشارع عام، وعلى مرأى أعين الجميع، بإطلاق وابل من الرصاص على سيارتها، جريمة مأساوية ومرعبة. ما يقارب ثلاثون طلقة رصاص أطلقت مباشرةً على المغدورة! مخزن سلاح كامل (مخزن آلي). هكذا يتم تصفية القيادات النزيهة والمسؤولين الشرفاء واحدًا تلو الآخر، بينما نحن نثير صخبًا وتريندات مؤقتة على مواقع التواصل الاجتماعي وننسى كل شيء بعد يومين أو أسبوع.
القتلة الذين ارتكبوا كل هذه الجرائم لم يُحاسَبوا، ولا يزالون طُلَقاء يعبثون بأمن المدينة وسلامة المواطنين وطمأنينتهم، حتى الذين أدانتهم الأدلة الصارخة، وأصدر القضاء أحكامًا بحقهم، وتوجيهات رئاسية وقرارات أمنية باعتقالهم وتقديمهم للعدالة. ولكن دون جدوى، فالسلطة المحلية والجهات العسكرية والأمنية المختصة بالتنفيذ تتقاعس وتغُضّ نظرها عن المجرمين. فالمشهري كانت قد قدمت بلاغًا ضد المتهم الرئيسي (محمد صادق) قبل مقتلها بشهر، أنه اقتحم مكتب صندوق النظافة والتحسين مع مسلحين، وأطلق النار، وهددها بالقتل والتصفية الجسدية. لكن السلطة المحلية والأمن لم يحركوا ساكنًا لاعتقاله أو لتأمين حياة إفتهان، بالرغم من أن هناك جريمة قتل سابقة مثبتة عليه.
من يتحمل المسؤولية الكاملة عن كل هذا هو مجلس القيادة الرئاسي متمثلًا برئيسه الدكتور رشاد العليمي، الذي لم يزر تعز كرئيس سوى مرة واحدة، واكتفى بالمراقبة وإصدار بيانات النعي والتعزية والتحذير والتنديد من فنادق الرياض ودبي، دون إقالة أو محاسبة أي مسؤول فاسد لا في السلطة المحلية ولا في الأمن والجيش، متناسيًا أنه لولا دعم تعز وأبنائها ما كان رئيسًا. لكنه خيّب الآمال وخان ثقة هذه المدينة المحاصرة التي ما زالت حاملة للجمهورية وحامية لها ضد مليشيا الحوثي الإمامية ومشاريعها. وكذلك محافظ المحافظة نبيل شمسان، الذي يبني الفلل ويشتري العقارات خارج البلد بالإيرادات، تاركًا تعز لمصيرها، فإن لم تمت جوعًا تُغتال على أيادي المجرمين وهوامير الفساد.
كان حلم إفتهان المشهري أن تثبت للعالم شيئًا واحدًا فقط، هو أن النساء، وخصوصًا المرأة اليمنية، قادرة على تحمل المسؤولية والقيادة السياسية والمدنية والتواجد في مناطق صنع القرار بكل كفاءة واستحقاق، وإظهار تعز بأبهى وأجمل صورة. لكنهم استصعبوا هذا، استصعبوا أن امرأة قادرة على إنجاز ما فشلوا فيه وبكل نزاهة، حاولوا إعاقتها بشتى الطرق وتشويهها ولكنها كانت أقوى وأنظف منهم، فتآمروا ولم يجدوا لهزيمتها سوى الإجرام.
كانت المشهري قد قطعت الطريق أمام هوامير الفساد من نهب إيرادات الصندوق وحاربت الفاسدين داخله. لم يغتالوا إفتهان وحلمها فقط، بل اغتالونا جميعًا. لطخة سواد في وجه تعز، فالعار ثم العار ثم العار إن لم يُوضع حد لكل هذا العبث، والقبض على المجرمين وتقديمهم للقضاء ومحاسبتهم، وكل من معهم أو له يد أو إصبع في هذه الجريمة وغيرها.
الرحمة والخلود للأستاذة النزيهة إفتهان المشهري، وتعازينا لأهلها وأقاربها وذويها ولأنفسنا وتعز أيضًا.