تضارب الرأسمالية بين الفكرة والواقع
الاربعاء, 05 نوفمبر, 2025 - 01:49 مساءً

في مقدمة كتابه، يتناول آدم سميث توجه المجتمعات نحو العمل وتحصيل الموارد، وكأنه يوجّه نقداً ضمنياً للرأسمالية ذاتها، بالرغم أنه يعد المؤسس الفكري الأبرز لها.
 
فعند تحديده لمعايير النظرية الاقتصادية التي ينسج خيوطها، يقرر سميث أن استقرار الشعوب وتوازنها الاقتصادي يقوم على شرطين أساسيين.
 
أولهما: توافر المهارة وحسن الرأي والتدبير.
 
وثانيهما: التناسب بين عدد الأفراد المنتجين وعدد الذين يستهلكون نتاج هذا العمل.
 
ويُعد آدم سميث من أوائل من عرض هذ الفكرة بهذه المنهجية، وإن كان مضمونها لا يختلف كثيراً عما تقرره الاقتصاديات العقلانية الإيجابية، كالفكر الاقتصادي الإسلامي؛ في حين أن الرأسمالية انتهت لاحقاً إلى معارضة ذلك بشكل كبير.
 
يوضح سميث أن أجرة العامل ينبغي أن تتناسب مع حجم رأس المال الذي يُشغّله العامل، وكذلك مع عدد المستفيدين من نتاج عمله.
 
وهو بذلك يطرح حلاً فلسفياً ومنطقياً لتداول المال والعدالة الاقتصادية التي تفتقد إليها البشرية اليوم، ومن أجل أن يقرر ذلك المعنى ضرب بعضاً من الأمثلة الاجتماعية إذ تقوم بعض المجتمعات المادية بالتخلي عن أفرادها العاجزين عن العمل، مثل كبار السن والمقعدين وذوي الإعاقة، باعتبارهم مستهلكين غير منتجين وبهذا تصبح قيمة الإنسان محصورة في قدرته على الإنتاج، بغض النظر عن عمره أو حالته، ويتطور هذا المنطق المادي ليقود بعض المجتمعات إلى سن تشريعات تقيد النسل وتنظمه؛ فيعمل الشاب لنفسه فقط ولا يعيل غيره، وتُجبر المرأة على العمل جنباً إلى جنب مع الرجل باعتبار أن كل فرد مسؤول عن ذاته ومعيشته فقط.
 
ومن هذا المنطلق الضيق، يرى الإنسان نفسه في صراع دائم مع الحياة، مثقلاً بالمتطلبات، غير مستعد بل غير مقتنع بتحمل مسؤولية فرد آخر، حتى لو كانت زوجته، وهذا الوعي المادي جعل كثيراً من الشباب يعزفون عن الزواج وبناء الأسرة التي هي أساس استقرار المجتمع وحفظ النسيج الإنساني، وهنا يبدو أن المستفيد الأوحد من هذا المنحى هي الرأسمالية، التي وجهت مفكريها إلى تكريس مفاهيم متناقضة حتى مع الأسس التي وضعها آدم سميث نفسه.
 
فالأساس الحقيقي للنظرية كما يعبر سميث يفترِض أن تكون أجور العمال متناسبة مع ما ينتجونه ومع رأس المال الذي يسهمون في تشغيله، وهو ما يؤدي تلقائياً إلى تقليص الفوارق الطبقية، ويُمكّن العامل من الادخار أو على الأقل إعالة أكثر من فرد من أفراد المجتمع، غير أن هذا المبدأ لا يجد له مكاناً في التطبيق الرأسمالي المعاصر، في دعوى الحرية الشخصية أباحوا للفرد أو المؤسسة أن تصنع ما تريد وتمارس ما تشاء من أجل الحصول على المال وبأي وسيلة وطريقة ومن أي مورد نافعاً أو غير نافع حلالاً أم حراماً، وتستغل تلك المؤسسات الدور المجتمعي والأخلاقي فتستغل العاملين وتُهمل احتياجاتهم ومسؤولياتهم الاجتماعية، فتمنحهم أجوراً لا تبلغ في كثير من الأحيان 20٪ مما يستحقونه فعلياً، وهكذا تتعمق الفجوة الطبقية بين أصحاب رأس المال والطبقات العاملة، ويُرغم العامل على بذل جهد ووقت أكبر لتغطية حاجاته، بينما تزداد ثروة الشركات والمؤسسات الكبرى على حساب البسطاء.
 
والإسلام في هذا كله يضع معياراً عاماً وأهمه الحفاظ على حقوق الناس والاهتمام بالفقراء والمساكين، فعلاوة على ما تعطيه تلك المؤسسات من أجور العمال فهو يأخذ منها نسبة سنوية ليضع توازنا بين أصحاب رأس المال ومن لا يملكونه، وهو لا يأخذ ذلك عنوة، إذ ينبغي أن يكون الإنسان قد وصل من الوعي إلى أن يعطي ذلك حباً في الغير وطبعاً في الأجر والثواب ورضا النفس في الدنيا، ولو تأمل اللبيب سيرى أن ذلك هو غاية ما تبحث عنه البشرية "الرضا والسعادة" فيكون بذلك حقق مصلحة شخصية أخرى في الروح والمادة.
 
ومن جانب آخر فإن الإسلام في الوقت ذاته يضبط المعاملات بين الناس بعضهم، حتى لو كان في بلاد المسلمين غير المسلم، فيحرم الظلم والاستغلال والغش والخيانة وأكل مال الناس بالباطل والربا، والقمار والميسر والإضرار بالآخرين عموما وخصوصاً، وجعل الحكم حال الاختلاف تقويم العدل فيعطى العامل ما يستحق مثله، وليست هذه العبارات مجرد مفاهيم يسردها الإسلام ببساطة بل قد تجد المجلدات في جزيئة واحدة منها وفي مبدأ واحد كالربا أو الظلم والخيانة والتناجش وغيرها..
 
والمتأمل يرى أن نظريت سميث القائمة على الحرية الفردية تشابه إلى حد ما مبادئ الدين الإسلامي في اعتبار كينونة الفرد واستقلالية تصرفاته عن الجماعة مع وضع ضوابط محددة تحافظ على حقوق الغير وهي نفسها ما تكاد توافق نظرية الكاتب، وهو ما تناقضه تصرفات الرأسمالية الحديثة ومبادئها..
 

التعليقات