د. ندى قنبر

د. ندى قنبر

أكاديمية يمنية

كل الكتابات
اللغة والتعبير
الإثنين, 17 نوفمبر, 2025 - 02:20 مساءً

التقيت بصديقة فرنسية وأثناء الحديث سألتها عما تفتقده أكثر في الغربة، فقالت أنها تشتاق لوالدتها. ما جذبني هو التعبير الذي قالته بلغتها. قالت بلهجتها الدافئة:  «Sa présence me manque" وترجمته حرفيا "فقدت جزءا مني".
 
اندهشت من دفء اللغة الفرنسية في التعبير  عن شعور الشوق، وكأن الشوق ليس مجرد إحساس بالغياب عند الفرنسيين، بل هو نقص وفقدان جزء من الذات، أو كأن الغائب عمود  أساسي مفقود من أعمدة الروح. وبما أني من أنصار فكرة أن اللغة تشكل إلى حد كبير طريقة تفكير الشعوب ونظرتهم للحياة، فتحت هذه العبارة في قلبي نافذة واسعة على معنى الغياب في اللغات الأخرى، ودفعتني للتأمل كيف تسمّي مختلف الثقافات وجع الغياب.قد يبدو أن شعور الشوق واحد، إلا أن كل شعب يمزجه بطينه، ويمنحه صوته الخاص.
 
وهكذا يصبح قول “أشتاق إليك مرآة لروح الثقافة، وصدى للحب كما تفهمه تلك الأرض. ابتداء من اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية، لم أجد مفردة اختزلها العرب يقول العرب فيها (اشتاق لك). عبارة "أشتاق لك"، عبارة حديثة لم ينطق بها العرب قديما. وأظن أن الشوق في المخيال العربي ارتبط بالصور الحسية: يُرى ويُلمس ويُسمع: "النار، الدار، الدمع، الغياب، السفر، الريح، الليل" وهذا يقول الكثير  عن التعبير عن العاطفة في اللغة العربية.العرب لم يتعاملوا مع العاطفة بوصفها معنى جامد، بل كخبرة وجودية، ولذلك لجؤوا إلى الصور الشعرية والاستعارات والمجازات بدلًا من تضييقها في مفردة واحدة.
 
أما العربية الدارجة، نقول للجسد الغائب "افقدك" أو "وحشتني"، "توحشتني"، وهو لفظ يوحي بوحشة الروح والقلب وفراغ داخلي مخيف لا يملأه سوى الحضور. بالطبع تختلف المفردات في اللهجات العربية وأظنها تعكس حرارة ودفء ناطقيها وطبيعتهم النفسية.أما في اللغة التركية، يقولون   Seni özledim وعندما بحثت عن  معناها الحرفي وجدت انها  لا تعني “اشتقت إليك” فحسب، بل “قلبي يتذكرك، وذاك التذكر يؤلمني بطريقة جميلة". وفي الفارسية ينقبض القلب حين يشتاق: "دلم برات تنگ شده" — ومعناها "قد ضاق قلبي عليك".
 
وأما في اللغات الكورية واليابانية، اللغة تختار النية بدلًا من العاطفة المعلنة ويعبرون عن شوقهم بما ترجمته الحرفية: "أريد أن أراك".وفي الصينية يصبح التفكير وحضور الشخص المتكرر في الذهن تعبيرا عن الشوق ذاته، فيقولون بما ترجمته الحرفية: "أنا أفكر فيك".هنا التفكير في الغائب يصبح هو الطريق إليه. وكلما تكرر التفكير، يعود  ذاك الغائب.
 
وعودة إلى نفسي ، الشوق، رغم تعدد الخرائط، هو مساحة فارغة في الروح لا يملأه سوى الحضور نفسه.
 
أي من التعابير راقت لكم؟

*نقلا عن صحفة الكاتبة في فيسبوك.

التعليقات