كانت بلقيس، في سنوات حضورها، أكثر من قناة تلفزيونية. كانت مساحة مفتوحة لليمنيين في وقت ضاق فيه كل شيء، ونافذة عبّر الناس من خلالها عن همومهم وواقعهم. وقفت القناة إلى جانب الحق في النقاش والاختلاف، وحاولت أن ترمم ما يمكن ترميمه في بلد تمزقه الصراعات. قدّمت خطابا مهنيا قريبا من الناس، ومنحته صوتا يليق بهم.
ومنذ تأسيسها، اتخذت بلقيس خطا تحريريا وطنيا واضحا ؛ وقفت مع الدولة وضد الانقلاب الحوثي، ورفضت أي تشكيل مسلح يعمل خارج الدستور. لم تتبع فصيلًا، بل انحازت لفكرة الدولة، ولهذا كثر خصومها، واتسعت دائرة من أرادوا إسكاتها.
كانت القناة، كل مساء، تفتح للمشاهدين أبوابا جديدة لفهم الأحداث. استضافت مختلف الأطراف: الانتقالي، الشرعية، بل وحتى الحوثيين احيانا في سياق مهني هدفه عرض المعلومة ومقارعة الحجة بالحجة. وبذلك قدمت نموذجا اعلاميا يحترم عقل الجمهور ويمنحه رؤية كاملة، لا رواية واحدة مغلقة.
لذلك، عندما أغلقت ، لم يكن الأمر عابرا . تحولت اللحظة إلى صدمة كبيرة، وكأنها كشفت قيمة القناة الحقيقية. شعر كثيرون بأن جزءا من المجال العام قد انطفأ، وأن مساحة واسعة للتعبير اختفت، وظهر بوضوح أن بلقيس كانت تؤثر أكثر مما يتوقع البعض، وأن حضورها كان يحرك النقاش العام بجدية ومسؤولية.
وفي خلفية هذا المشهد، لم ينس أحد العاملين في القناة. فالتضامن معهم واجب، لأنهم كانوا أساس نجاحها وصوتها اليومي. كلنا املا ويقين أن القناة لن تتخلى عن حقوقهم، وأنها كانت ستتعامل مع وضعهم بمسؤولية كما فعلت دائما.
لكن ما صاحب الإغلاق من تشف كشف أزمة أعمق. فقد بدا أن بعض الأصوات لا تؤمن بحرية الإعلام، بل بحرية تخدم موقفها فقط. استُغلت اللحظة لإهانة المختلف، وكأن المشكلة ليست في ممارسات السلطة، بل في نفوس اعتادت الفرح بسقوط أي مساحة حرة لا توافق هواها، والرضا بالعيش كاعلام تابع للضابط الداخلي او الخارجي الذي يدوس الكرامة ، ويحتقر الكلمة .
وغابت بلقيس لتترك سؤالا أكبر من وجودها: كيف سيحمي اليمنيون ما تبقى من صوتهم العام، إن فرحوا بسقوط المختلف بدل الدفاع عن حق الجميع؟
لقد كشفت لحظة الإغلاق أن قيمة الإعلام تظهر عند غيابه، وأن الوطن يحتاج إلى منابر لا تُغلق حين يشتد النقاش، بل تقوى وتستمر.
على يقين بعودة بلقيس فالخيبات لم تكن يوماً نهاية الطريق ، بل بداية مرحلة اكثر قوة ، واقوى صوتا.