الحكمة في مشهد الوحدة والانفصال والثورة في اليمن
الخميس, 11 ديسمبر, 2025 - 09:42 مساءً

في المشهد اليمني المليء بالمفارقـات، تبدو حكمة الله ماثلة في الصور المتناقضة التي تتكرر على امتداد التاريخ السياسي الحديث. فمنذ ثورات اليمن الأولى حتى صراعاته الراهنة حول الوحدة والانفصال، تتوالى المشاهد التي تكشف حجم التناقض وتبدّل المواقف وتحوّل الشعارات، وكأن اليمن مختبر دائم لامتحان النوايا وتقليب المواقف وكشف المعادن الحقيقية للفاعلين في الساحة.
 
أولى هذه المفارقات أن ثوار الأمس يتحولون إلى الثورة المضادّة بمجرد تغيّر موازين القوى. فقد شارك مؤتمريون في انقلاب الحوثيين تحت راية “الثورة على الفساد”، قبل أن يصبحوا لاحقًا في صف الثورة ضدهم، في دورة تكشف هشاشة الشعارات حين تنفصل عن الممارسة.
 
وكذلك فإن الكثير من رجالات الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني الذين أسقطوا دولة الجنوب العربي، يعيشون اليوم في ظل بريطانيا ويحملون جنسيتها، ويدعون علنًا إلى عودة اتحاد الجنوب العربي الذي أسسه المستعمر نفسه. هنا تتجسد المفارقة بأوضح صورها: من حمل السلاح ضد المستعمر بات يطالب بعودة نظامه القديم.
 
ويتكرر المشهد مع الرافضين للوحدة عام 1990 بحجة الإقصاء وغياب الاستفتاء، إذ يجدهم اليمنيون اليوم يخوضون معارك لفرض وحدة بالقوة على الجنوبيين دون استفتائهم، بل مع تضييق وقمع وصل حدّ الاعتقال والطرد والقتل في الشوارع.
 
كما أن ثورة الحوثيين التي رُفعت تحت شعار القضاء على الفساد ورفض جرعة البترول كان قائدها وداعمها الأول رأس الفساد نفسه طوال ثلاثة عقود، وصاحب سجل حافل بإقرار الجرعات الاقتصادية التي أثقلت كاهل اليمنيين.
 
وفي الجنوب، تبدو الدول لا تولد إلا برعاية خارجية مثقلة بالشبهات: مرة بقرار بريطاني عام 1967، ومرة أخرى بتمويل دويلة وظيفية صنعها المستعمر البريطاني .
 
وتبرز مفارقة أخرى في موقع الضالع؛ المحافظة التي تتصدر اليوم دعوة الانفصال ورفض الهوية اليمنية الجنوبية، بينما هي في أصلها منطقة شمالية ضُمّت للجنوب في زمن السيطرة البريطانية مقابل التخلي عن البيضاء لصنعاء.
 
أما مواقف الدول الإقليمية فتكاد تُحيّر إبليس نفسه. ففي حرب 1994 وقفت إيران مع الوحدة، بينما كان أنصارها في اليمن مع الانفصال، ووقفت السعودية مع الانفصال بقيادة حزب ظل يعارض سياساتها طوال عقود، بينما تقف اليوم ضد الانفصال. وفي المقابل كانت إيران – قبل أن تتبدل المواقع وتتغير الولاءات – قد لعبت دورًا بارزًا في تمويل وتدريب القوى الانفصالية، وقدّمت لها الدعم الإعلامي عبر قنوات مرتبطة بحزب الله في الضاحية الجنوبية. غير أن المفارقة الأعمق أن هذه القوى التي استفادت سابقًا من الدعم الإيراني، تحوّلت لاحقًا إلى ممول وكفيل آخر يرفع راية “مقاومة المشروع الفارسي”، ويقدّم نفسه باعتباره رأس الحربة في مواجهة النفوذ الإيراني نفسه، في تناقض صارخ بين الذاكرة القريبة والخطاب الراهن.
 
ويُقاتل المجلس الانتقالي من أجل الانفصال ورفض الوحدة اليمنية، لكنه يحتفل سنويًا بوحدة دولة الإمارات العربية المتحدة، ويرسل التهاني لقادتها، ويتمنى لوحدتهم مزيدًا من “الاتحاد والازدهار”.
 
ودعاة الانفصال في اليمن يجاهرون بتأييد وحدة التراب الصيني، ويرفضون انفصال تايوان، بل وشارك بعضهم سابقًا إلى جانب إثيوبيا لمنع انفصال إريتريا.
 
ولا تمر كارثة عربية كبرى إلا والقوميون في الواجهة؛ من الثورة العربية الكبرى التي انتهت بتقسيم سايكس–بيكو، إلى نكبة 1948، إلى هزيمة حزيران 1967، وصولًا إلى احتلال العراق عام 2003 وتسليمه لقوى خارجية، ثم تدمير سورية عام 2011 وتمكين النفوذ الإيراني فيها على حساب الشعب السوري ومطالبه بالحرية والكرامة. واليوم تتجلّى المفارقة في أوسع صورها في مواقف القوميين الناصريين في اليمن والاشتراكيين القوميين سابقًا الذين ظلوا لعقود يرفعون راية الوحدة العربية ويرددون خطاب “مقاومة الرجعية العربية”، لكنهم يقفون اليوم في صف مشروع انفصال اليمن دعمًا وترويجًا وتبريرًا؛ إرضاءً للمموّل الخارجي المشترك الذي وصفوه هم أنفسهم – يومًا ما – بأنه جزء من “المعسكر الرجعي العربي”. هكذا يتحول الخطاب من شعارات الوحدة والتحرير إلى مباركة مشاريع التجزئة، فقط لأن الممول تغيّر ومصادر النفوذ تبدلت.
 
وتبلغ المفارقة ذروتها حين تكون الدولة التي تسمّي نفسها “المتحدة” هي الداعم الأكبر لمشروع الانفصال في اليمن، بينما كانت قبل عقود ترفع شعار رفض الوحدة بالقوة.
 
كما أن الإمارات التي كان مؤسسها الراحل زايد بن سلطان يفاخر بانتمائه اليمني، تقف اليوم في قلب مشروع يستهدف الهوية اليمنية وينكر جذورها.
 
ويزداد المشهد غرابة عندما يتحول طارق عفاش – أحد أبرز داعمي الحوثي في حروبه ضد اليمنيين – إلى حليف للانتقالي والاشتراكي والناصري والتحالف العربي، دون تفسير سياسي متماسك.
 
أما الإمارات، أحد أعمدة التحالف العربي الساعي لإعادة الشرعية، فتستضيف في الوقت نفسه أبناء وأقارب علي عبدالله صالح، أحد صانعي التمرد والانقلاب، مع ضمان مصالحهم واستثماراتهم طوال سنوات الحرب.
 
ومن المفارقات الصارخة أن عبدربه منصور هادي فوّض قيادة الدولة لمن لا يعترفون بشرعيته أصلًا: طارق عفاش وعيدروس الزبيدي.
 
ويمتد المشهد إلى اقتصاد الحرب؛ فالانتقالي يسيطر على نفط حضرموت ومصافي عدن، ويطالب مأرب بتمويله بالنفط والغاز والمشتقات، وإلا فالحرب خيار مطروح.
 
وعلى الجانب الآخر، يستنكر بعض المحللين الكويتيين مقاومة اليمنيين للانفصال خشية “تمزيق البلد”، بينما اجتمع العالم كله – قبل ثلاثة عقود – لدحر الاحتلال العراقي للكويت، ولو أدى ذلك لتدمير الكويت والعراق معًا.
 
ويظل حزب الإصلاح، في كل مرة، بين مطرقة اتهامه بإضاعة الدولة وممارسة الإقصاء، وسندان مطالبة خصومه له بالقتال والدفاع عن الوحدة والدولة والشعب عند كل منعطف.
 
في النهاية، يظهر المشهد اليمني كأنه مسرح كبير تتكرر فيه المفارقات، وتتناقض فيه الشعارات، ويتغير فيه اللاعبون دون أن تتغير الأدوار. وتبقى حكمة الله نافذة؛ تكشف زيف الشعارات، وتقلب اللوحات، وتعيد ترتيب الوجوه على نحو لا يملك معه المتابع إلا أن يقف مذهولًا أمام مشهد لا يحتاج إلا عنوانًا واحدًا: اليمن… بلد المفارقات الكبرى.
 

التعليقات