[ عدة محطات للصراع في اليمن انتخت بشكل مخيب ]
لم تبدأ الفوضى في اليمن كحدث مفاجئ، بل تشكّلت ببطء، عبر مسارٍ تراكميّ من التسويات الناقصة، والاتفاقات التي عالجت الأعراض وتجاهلت أصل المرض. منذ أزمة سقطرى الأولي مع رئيس الوزراء السابق الدكتور احمد عبيد بن دغر، بدا واضحا أن إدارة الأزمات خارج إطار إصلاح الدولة لا تؤدي إلى الاستقرار، بل إلى إعادة إنتاج الهشاشة. كل حلّ جزئي، غير مسنود بحزمة سيادية متكاملة، كان يترك الدولة أضعف مما كانت عليه، ويُغري القوى المسلحة بتوسيع نفوذها.
في سقطرى، لم تكن المسألة جزيرة معزولة، أول خلاف طارئ مع قوات غير قانونية، بل نموذجا. نموذج يقول إن الدولة يمكن التفاوض معها وهي منقسمة، وإن القرار السيادي ليس واحدا، بل قابل للتقاسم. ومع تكرار هذا النموذج، في عدن، وشبوة، وسقطرى مرة أخري، تحوّل الاستثناء إلى قاعدة: لم يعد التمرد قطيعة مع الدولة، بل وسيلة للضغط داخلها، ولم تعد الفوضى انهيارًا، بل نمط إدارة مؤقت.
بهذا المعنى، فإن ما يجري اليوم في حضرموت والمهرة لا يمكن فهمه بوصفه أزمة محلية أو خلافا إداريا، هو امتداد لمسار واحد: دولة فقدت مركزها القانوني الواضح، وشرعية تتعايش مع قوى موازية، وسلطة تتآكل من الداخل تحت ضغط التسويات المتكررة. الخطر هنا لا يكمن فقط في العنف، بل في تطبيع فكرة أن الدولة يمكن تجاوزها، أو الالتفاف عليها، أو اقتسامها.
أمام هذا الواقع، يصبح واضحا أن تصحيح الأوضاع لا يمكن اختزاله في إجراء أمني، ولا في تسوية سياسية عابرة. المطلوب مقاربة شاملة، تعيد الاعتبار لفكرة الدولة قبل أن تحاول فرض سلطتها. مقاربة تفهم أن الأمن دون قانون هش، وأن السياسة دون مؤسسات بلا جذور.
أمام هذا المسار المتراكم من الهشاشة، لا يعود السؤال كيف تُدار الأزمة، بل كيف يمكن كسر منطقها نفسه. فالتعامل مع نتائج الفوضى، دون تفكيك أسبابها البنيوية، لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاجها بصيغ جديدة. من هنا، لا يمكن مقاربة ما يجري باعتباره ملفا أمنيا أو سياسيا منفصلا، بل اختبارا لطريقة استعادة الدولة، عبر مسارات متوازية ومتكاملة، لكل منها وظيفة محددة، ولا يغني أحدها عن الآخر.
في هذا السياق، يبرز المسار العسكري كإجراء اضطراري حين تُهدَّد حياة المدنيين وتُكسر هيبة الدولة. وقد جاء طلب تدخل دول التحالف، وعلى رأسها السعودية، لمنع انزلاق الأوضاع نحو فوضى مفتوحة. غير أن أهمية هذا المسار لا تكمن في القوة ذاتها، بل في حدودها ووظيفتها: أن يكون تدخلا مؤقتا، مضبوطا بطلب الشرعية، وموجّها نحو حماية الدولة وفتح الطريق أمام استعادة القرار السيادي، لا إدارة الفراغ أو ترسيخه.
إلى جانب ذلك، يظل المسار الدستوري والسيادي هو جوهر المسألة. فالدولة لا تقاس بحضورها الرمزي، بل بقدرتها على احتكار القرار والقوة، لا سيادة مع سلاح خارج مؤسساتها، ولا شرعية مع نفوذ مواز يعمل داخلها. استعادة هذا المركز تعني إنهاء التشكيلات المسلحة الخارجة عن وزارتي الدفاع والداخلية، وتجفيف الشبكات السياسية والعسكرية التي أعادت منطق المليشيا إلى قلب الشرعية، وأفرغت الدولة من معناها القانوني.
أما المسار الثالث، فهو المسار القانوني والمحاسبي. فالدولة التي تتسامح طويلا مع خرق سلطتها تُضعف نفسها بنفسها. المساءلة هنا ليست فعلا انتقاميا، بل شرطا للاستقرار. من دون محاسبة واضحة لكل من شارك أو سهّل أو أيّد التمرد، تتحول الدولة إلى كيان تفاوضي بلا ردع، ويغدو خرق القانون خيارًا آمنًا لا مخاطرة محسوبة.
ويأتي أخيرا المسار الإداري والمجتمعي، وهو الأكثر هدوءًا والأطول أثرًا، فالدولة لا تُستعاد بالبيانات ولا من خارج الحدود، بل بالحضور اليومي في حياة الناس: في الخدمات، وفي الإدارة، وفي الإحساس بأن هناك سلطة مسؤولة وقريبة. حين يشعر المواطن بوجود الدولة في تفاصيل حياته، تتراجع تلقائيًا جاذبية القوى الموازية، لأن الدولة هنا لا تُفرض بالقوة، بل تُكتسب بالثقة.
هذه المسارات لا تعمل منفصلة، القوة بلا قانون عنف، والقانون بلا محاسبة نص معطّل، والمحاسبة بلا إدارة فاعلة أثر ناقص. وحدها المقاربة المتكاملة قادرة على كسر مسار الفوضى، لا عبر حلول مؤقتة، بل عبر إعادة الاعتبار لفكرة الدولة نفسها.
في النهاية، ليست المسألة حضرموت أو المهرة، ولا سقطرى من قبلها. المسألة أعمق: هل تبقى الدولة اليمنية إطارًا سياديًا واحدًا، أم تتحول إلى مساحة مفتوحة لتجارب القوة؟ الجواب لا يُكتب في اتفاقات عابرة، بل في القدرة على استعادة الدولة، بهدوء، وبلا ضجيج.