[ جانب من ميناء الحُديدة ]
يبدو أن الحوثيين علِقوا في إشتباك غير محسوب ومتصاعد مع المجتمع الدولي، وليست لهجتهم العدوانية ضد الجنرال الهولندي المتقاعد، باتريك كمارت، الذي كلف بمهمة رئاسة "لجنة تنسيق إعادة الانتشار في محافظة الحديدة" الساحلية، بموجب اتفاقية ستوكهولم للسلام في اليمن (الموقعة في 13-12-2018)، سوى تعبير عن ارتباك أكثر من كونها ضغطا ممارسا من قبلهم بعواقب مُدرَكة.
ولا يبدو أن الحوثيين يدركون الفارق بين استجابات قائد فريق المراقبة الدولية وبين المبعوث الاممي مارتن جريفث.
فهذا الأخير يمتلك هامش السياسة وفرص المناورة، بينما الجنرال مُقيد بشروط ومهام محدده وفق الاتفاق، وهي محمية بقرار دولي. ولن يغير تسخين الحوثيين للأجواء معه من تفاعله معهم، أو يجعله أكثر استجابه لضغوطهم، وليس بيدهم شيء سوى رفض التعامل معه وإبطال مهمته، وهذا يعني ببساطة معركة بلا سقف مع قرار دولي ومجلس أمن، وليس معركة مع فريق مراقبين وقائدهم فقط. والتصعيد الذي يمضون فيه مع الجنرال الهولندي ليس سوى هدية مجانية ل "التحالف العربي" الذي تقوده السعودية والحكومة الشرعية..
هكذا ينحرف، لأول مرة، الضغط الدولي عن التحالف العربي نحو خصمه الحوثي! وهذا الأخير – اضافة لما سبق – ما زال يعاني من ضربة فضيحة المساعدات الدولية (التي وضع يده عليها ووجهها الى مناطق سيطرته)، وهي قضية تبدو ككرة الثلج، ستتفاقم مع عدم استجابة الحوثيين للموضوع بشكل ذكي ومدرِك للعواقب حتى الآن.
وضعية الحُديدة
تصبح الحُديدة منطقة وصاية دولية أكثر وأكثر. وفي ظل القرار الدولي الثاني الذي عزز مهمة فريق المراقبين، فإنشأ بعثة مراقبة يضاف فيها 75 مراقب آخر الى جوار السابقين، فان ذلك يعني هامش سياسي وعسكري أقل أمام الجميع، وخصوصاً امام الحوثيين. ولن تتغير قواعد اللعبة الجديدة في الساحل الغربي، التي وافق عليها الحوثيون في السويد، لأنهم اكتشفوا، متأخرين، أنها لا تخدم مصالحهم بالطريقة التي توقعوها!
ظهر الحوثيين مكشوف للغاية، ويبدو ان غضبهم المتصاعد وسوء إدارتهم لهذا الملف سيصيبهم بأضرار سياسية لم يتوقعوها فعلياً.
اضافة الى ما سبق، تظل الأسئلة ملحة بخصوص إتفاق استكهولم نفسه، الذي يبدو مثقلاً بالتعقيدات أكثر من الفرص. فلماذا انحرف الاهتمام الدولي نحو الالحاح على موضوع الحديدة، بعيداً عن القضية اليمنية الاساسية، وتحت العنوان الانساني فقط؟ وهل يُفصح هذا الاتجاه الجديد عن الرغبة بتبريد معركة مشتعلة على ضفاف البحر الأحمر، حيث الحفاظ على المصالح الدولية الكبيرة هناك وحمايتها أهم من المغامرة باستمرار معركة يمكن ان تؤذي نتائجها غير الواضحة هذه المصالح؟
لن يغير تسخين الحوثيين للأجواء مع رئيس “لجنة تنسيق إعادة الانتشار في محافظة الحديدة” الساحلية، المكلّف بموجب اتفاقية ستوكهولم للسلام في اليمن، من تفاعله معهم، أو يجعله أكثر استجابة لضغوطهم، وليس بيدهم شيء سوى رفض التعامل معه وإبطال مهمته، وهذا يعني ببساطة معركة بلا سقف مع قرار دولي ومجلس أمن، وليس معركة مع فريق مراقبين وقائدهم فقط.
حتى الآن يبدو هذا الاتجاه المتزايد لتدويل الحُديدة كتعبير واضح عن الرغبة بإخراج المحافظة من النزاع المحلي ونقلها الى مستوى الوصاية الدولية. وهذه الحماسة الأممية التي حملت مجلس الأمن على اصدار قرارين خلال أقل من شهرين ليست الا تعبيراً كثيفاً عن أولويات “المجتمع الدولي” ومصالحه، أكثر مما هي اكتراث بمصالح اليمنيين أو بأطراف حربهم.
فتش عن البحر الأحمر
يتخوف الفاعلون الدوليون والاقليميون الكثر، من ذوي المصلحة في هذا البحر المهم، من إنخفاض حساسية المتقاتلين على ساحل البحر الأحمر لأهمية المكان، ومن تداعيات ما يقومون به.
وحين أطلق الحوثيون في البداية صواريخهم على السفن الحربية الامريكية في 2016، دق حرس إنذار حاد في الأروقة الأمنية والعسكرية الدولية عن "المخاطر الجديدة في البحر الأحمر"، وعن "الطبيعة المغامرة والخطيرة" لجماعة الحوثيين، وكيف يُمكن أن تذهب بعيداً بدون ان تدرك عواقب أفعالها، أو أنها قد تستخدم لتفجير الأوضاع في البحر الاحمر في حال انفجار اَي صراع مع إيران أو حتى بين حزب الله وإسرائيل. وفي المقابل أيضاً، لوحظت بقلق الهوية السلفية للمقاتلين المعادين للحوثيين والذي يتقدمون حثيثاً على هذه السواحل المهمة.
ومعلوم أن الروابط غير المرئية بين السلفيين وجماعات مثل القاعدة وداعش هي محل تساؤل، خصوصاً أن معركة كبيرة في هذه الساحل يمكن أن تخلق فراغات أمنية كبيرة على المدى الطويل وفي حال عدم حسم المعركة سريعاً وتحقيق استقرار وسيطرة من طرف واضح. وهو أمر يمكن ان تستفيد منه القاعدة وداعش، أو اأي طرف له مصلحة باشعال الأوضاع فجأة في جنوب البحر الاحمر.
تظل الأسئلة ملحة بخصوص إتفاق استكهولم نفسه الذي يبدو مثقلاً بالتعقيدات أكثر من الفرص، لفهم سبب انحراف الاهتمام الدولي نحو الالحاح على موضوع الحديدة بعيداً عن القضية اليمنية الاساسية، وتحت العنوان الانساني فقط.
وما بين هذا وذاك، وفِي ظل معركة تحتوي على تعقيدات إنسانية كبيرة علاوة على أن نتائجها غير معلومة ولا هي سريعة، بدأت تتبلور مقاربة دولية جديدة لمعالجة هذه المعطيات ومحاولة استيعابها، تركز بشكل أساسي كما يبدو على تحييد الحُديدة وإخراجها من دائرة النزاع ووضعها تحت انتداب دولي ناعم تشرف عليه القبعات الزرق الى حين انجلاء الأوضاع في اليمن.
يمكن تفسير الامر بالتأكيد ضمن نظرية المؤامرة السهلة. ولكن هذا الفصل الحثيث لقضية الحُديدة عن مجمل الحرب في اليمن والأزمة فيها، يمنح سياقاً منطقياً معقولاً لهذا التفسير، خصوصاً وأن التركيز المبالغ به على الحُديدة والانخراط الدولي المتسارع فيها بشكل غير مسبوق لا يمكن عزوه فقط لصحوة مفاجئة لضمير المجتمع الدولي تجاه الوضع الانساني في اليمن، أو لتداعي قضية خاشقجي أيضاً (بما هو نوع من التأديب للسعودية)، بل هو عائد لسلم أولويات سياسي وأمني يقع تحديد الأهم فيه ضمن نطاق تقديرات بعيدة عن جغرافيا اليمن ومصالح مواطنيها والأطراف المشتبكه فيها.