في العام 2011 خرج اليمنيون من مختلف الفئات والجهات في ثورة شعبية سلمية، مطالبين بإسقاط نظام علي عبد الله صالح، بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحكم الفردي، والفساد والافساد، والقمع، والحروب الداخلية، وفشل التنمية، والتوريث. وباستثناء وسائل إعلام النظام، لم يقل أحد داخل اليمن وخارجه، عن مطالب ثورة 2011 إنها غريبة أو عابثة، بل جرى النظر إليها في حينه باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لتراكم طويل من الانتهاكات والفشل في بناء دولة حديثة عادلة.
لكن ما إن انطفأت جذوة الثورة، حتى بدأت أصوات تتعالى في المشهد اليمني تقول: "سلام الله على عفاش!"، وتُحمِّل الثورة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من انهيار شامل. فهل الثورة هي التي أسقطت الدولة؟ أم أن الحقيقة أعمق وأخطر من هذا التبسيط المخادع؟
إن ثورة 2011 لم تسقط الدولة وإنما كشفت للناس إنها لم تكن موجودة أصلا، وتعليق انهيارها على شماعة الثورة هو قراءة معكوسة للتاريخ. والحقيقة أن الدولة لم تكن قائمة على أسس سليمة أصلًا حتى تسقطها ثورة سلمية. ما كان قائمًا هو نظام هش، قائم على توازنات قبلية ومناطقية ومصلحية، لا على مؤسسات وطنية محايدة. وعلي عبد الله صالح، طوال 33 عامًا، لم يبنِ دولة بل أدار شبكة معقدة من الولاءات والمصالح، وتعامل مع مؤسسات الدولة كملكية شخصية لتثبيت حكمه وقمع خصومه وتمكين أسرته. وعموما اتسم نظام علي صالح بما يلي:
1. جيش مناطقي في معظم قوامه البشري، ومقسَّم في ولائه.
2. أجهزة أمنية مرتهنة.
3. قضاء غير كفء وغير نزيه وغير مستقل.
4. إدارة غارقة في الفساد والمحسوبية.
5. خدمات رديئة في كل قطاعاتها.
6. تخطيط حضري غائب.
7. تنمية غائبة.
وحين خرج الشباب إلى الساحات في ثورة سلمية، كانوا يحلمون بدولة عادلة، وبمستقبل مدني، وبوطن يتسع للجميع، ولم يكن هدفهم تدمير مؤسسات الدولة، بل إنقاذها. لكنهم واجهوا نظامًا كان مستعدًا لحرق كل اليمن من أجل البقاء في السلطة.
وعلي صالح لم يغادر السلطة طوعًا، فبعد توقيعه على المبادرة الخليجية، ظل حاضرًا عبر حزبه وأجهزته وشبكة مصالحه، الأمر الذي مكنه من تقويض المرحلة الانتقالية، وإرباك العملية السياسية، وفتح المجال لتنامي المليشيات والسلاح، والشروع في تدابير انتقامية ضد خصومه السياسيين على قاعدة "إن أصابتْ لي، وإن أخطأتْ فعلي وعلى أعدائي".
والمبادرة الخليجية لم تكن سوى تسوية أبقت على النظام وأجهضت الثورة، حيث منحت الحصانة لعلي صالح، ولكل من عمل معه خلال سنوات حكمه الطويل، مقابل التنحي الشكلي عن السلطة. وفي المقابل لم يتم تنفيذ ولو الحد الأدنى من العدالة الانتقالية، ولم يتم إعادة بناء المؤسسات على أسس وطنية، بينما بقيت مراكز القوى والانقسامات كما هي. وفي ظل هذا الفراغ، استكمل انهيار الهياكل الهشة في 2014-2015 مع سقوط صنعاء بتدبير ومشاركة من علي صالح نفسه، تخطيطا وتنفيذا.
بعبارات أوضح، لم تمنح الثورة فرصة لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية، فيما بقي نظام علي صالح قائما دون استئصال. ومن أخطر الأمور اليوم أن تتعرض الثورة للجلد اليومي، بينما لا أحد يحاسب النظام الذي قامت الثورة ضده. والقول إن "الثورة هي السبب في دمار اليمن" تزوير للوعي، يتجاهل أصل المشكلة، ويقدّم نظام علي صالح كملاذ من الفوضى الراهنة بينما هو أصلها. ويجري تسويق هذا التزوير عبر خطاب مخادع يسعى إلى تبييض صفحة الاستبداد، وتخدير الوعي العام، وإعادة انتاج البنية الفاسدة التي فجرت الكارثة.
والخروج من حالة الفوضى والانهيارات الراهنة ليس في الحنين إلى "زمن الأمن الزائف"، ولا في اجترار الفوضى، بل في مشروع وطني جديد يقطع مع ثقافة الحكم الفردي، ويؤسس لدولة مدنية حديثة تستند إلى المواطنة، وتعيد الاعتبار لمفهوم الدولة كمؤسسة لا كإقطاعية.
خلاصة القول: لا تعاتبوا الثورة... عاتبوا من دمر الدولة ليبني على أنقاضها سلطة له ولعائلته، فالثورة لم تُسقط الدولة، بل كانت محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما الذي أسقط الدولة فعلًا، فهو النظام الذي أضعفها عمدًا، واختزلها في شخص رئيسه، حتى إذا تهدد وجوده انهارت الهياكل الهشة التي بناها.