تورط قيادات في الانتقالي وقوات الساحل والحوثيين والجيش في عملية التهريب
"سماسرة التبغ وإمبراطورية المال".. تحقيق لـ"الموقع بوست" يكشف شبكات واسعة لتهريب السجائر في اليمن وخسائر بمليارات الريالات
- نواف الحميري الإثنين, 20 فبراير, 2023 - 12:23 صباحاً

[ تحقيق السجائر المهربة كشف حقائق كثيرة ومعلومات تفصيلية - الموقع بوست ]

تشهد سوق السجائر في اليمن تزايدا واسعا للأصناف المهربة، التي تتدفق بشكل مهول، خلال السنوات الأخيرة، بفعل الفوضى الأمنية، ملحقة خسائر مالية بالاقتصاد اليمني، الذي يُحرم من عائدات ضريبية بمليارات الريالات كل عام، بفعل عمليات التهريب.

 

يتتبع "الموقع بوست" في هذا التحقيق الاستقصائي عمليات تهريب السجائر غير القانونية، من دول عدة، أبرزها من الإمارات إلى اليمن، والشبكات التي تقف خلفها، والمتواطئين مع هذه الشبكات في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وطرق التهريب البحرية والبرية، والخسائر التي يُمنى بها الاقتصاد اليمني، بفعل عمليات التهريب، والجهة المستفيدة من ازدهار تجارة السجائر المهربة في اليمن، والأضرار الصحية الخطيرة على اليمنيين، التي يتسبب بها تدخين السجائر المهربة.

 

وننوه هنا إلى أننا وضعنا أحرف مختصرة، كرموز لأسماء الشخصيات التي تحدثت في هذا التحقيق، وذلك بناء على طلبها، وحرصا على سلامتها، تجنبا لأي أذى قد يطالها، بسبب حساسية المعلومات التي أفصحت عنها.

 

انتشار مهول

 

يؤكد (م.ع) وهو مصدر رفيع في مصلحة الضرائب بالعاصمة المؤقتة عدن، تزايد عمليات تهريب السجائر إلى اليمن خلال الفترة الأخيرة بشكل كبير، مشيرا إلى ازدياد نسبة الإتجار بالسجائر المهربة في اليمن خلال فترة الحرب إلى 200% عنها خلال سنوات ما قبل الحرب.

 

وذكر (م. ي) مسؤول رفيع في شركة كمران، أن التدفق الهائل للسجائر المهربة إلى اليمن تسبب بانخفاض نسبة الإنتاج المحلي من السجائر المُنتجة من قبل شركات التبغ اليمنية الثلاث، "شركة كمران" (حكومية)، و"المتحدة للصناعات" (خاصة)، و"شركة السجائر والكبريت الوطنية المحدودة - عدن" (حكومية)، والتي كانت تدر ضرائب هائلة عُدّت ثاني أكبر مورد للاقتصاد اليمني بعد النفط، خلال فترة ما قبل الحرب، قبل أن يتراجع الإنتاج مؤخرا إلى مستويات ضئيلة، ومن ذلك تراجع إنتاج شركة السجائر الوطنية "كمران" بمفردها بنسبة 90% خلال خمس سنوات فقط، وفق إحصاءات رسمية للشركة، حصل الموقع بوست على نسخة منها.

 

 

وانخفضت ضرائب مبيعات الشركة التي كانت تورد إلى خزينة الدولة؛ من 64 مليارا و890 مليون ريال خلال العام 2013، إلى 8 مليارات و113 مليون ريال يمني فقط خلال العام 2018، بحسب الإحصاءات ذاتها.

 

 

في المقابل، تضاعفت كميات السجائر المهربة في البلاد بشكل غير مسبوق خلال الأعوام السبعة الأخيرة، وذلك بسبب التدهور الأمني الذي تشهده اليمن بفعل الحرب القائمة، حيث تسللت إلى البلاد خلال العام 2021 فقط نحو مليوني كرتون من السجائر المهربة.

 

أنواع السجائر المهربة

 

يوجد أكثر من 160 نوعا من السجائر المهربة في الأسواق اليمنية، تبيّن أن معظمها يرد من دولة الإمارات، وقد رصد معد التحقيق بشكل حصري 16 صنفا منها يوجد في عدد من المحافظات اليمنية، وهي، "مودرن"، و"رويال رشمان"، و"بون"، و"مانشستر"، و"ميلانو"، ورسيمان"، و"فيتشر"، و"جولد بول"، و"بولس"، و"أورايس"، و"كوين"، و"ميكادو"، و"ميلبو"، و "إم جي"، و"سوبر7"، و"المخا"، وجميعها أنتجت في مصانع تبغ توجد في "المنطقة الحرة" بـ"جبل علي" بالإمارات التي تعد الثالثة عالميا بعد الصين وتايوان، في تصنيع المنتجات المقلدة، منها السجائر، وفق بيانات منظمة التعاون الاقتصادي.

 

 

ومن أبرز تلك المصانع والشركات المُصدرة للسجائر غير القانونية التي تصل إلى اليمن، "جلوبال توباكو"، و"كولبهار توباكو إنترناشيونال"، و"أورشيد توباكو أندستريز ليمتد"، و"يورب أشين توباكو"، و"انتركونتيناك للتبغ"، و "دوبين ايجنسيز"، و"ينفر سال توباكو يمن"، و"مصانع الاتحاد لإنتاج التبغ والسجائر"، و"شركة كاني الأمريكية العالمية للتبغ"، و"كروان أجنسي ليمتد للتبغ".

 

تضاعف الأنواع

 

يشكو أحمد قاسم، أحد تجار التبغ في محافظة تعز (جنوب غربي اليمن)، من تضاعف الأنواع الجديدة من السجائر المهربة في السوق المحلية، مؤكدا أنها تحظى بإقبال كبير من قبل المدخنين اليمنيين، بسبب رخص ثمنها مقارنة بالأنواع المحلية.

 

ويبلغ متوسط ثمن العلبة (الـ"باكت" الواحد) من السجائر المصنعة محليا نحو 1000 ريال يمني (دولارين شمالا ودولار جنوبا)، في حين يباع نظيره المهرب بثمن يبلغ في المتوسط 400 ريال يمني، وهو ثمن رخيص مقارنة بأثمان السجائر المحلية، وذلك ما يدفع الكثير من المدخنين إلى تفضيل السجائر المهربة رخيصة الثمن قياسا بنظيراتها المحلية، التي تعد غالية الثمن بالنسبة للمستخدم اليمني، الذي يعاني من الفقر والظروف السيئة، بفعل الأزمة القائمة.

 

طريق التهريب البحري

 

تُشحن السجائر المقلدة من بلد المنشأ في الإمارات، وتُهرب على متن سفن تجارية، عبر الطريق الدولي في البحر الأحمر، ثم مضيق باب المندب، وصولا إلى جيبوتي، ثم إلى الموانئ اليمنية.

 

وتصل شحنات السجائر المهربة على دُفع منفصلة، إلى ميناء جيبوتي أولا، الذي يعد نقطة الوصول الأولى لها، وذلك لقربه من السواحل اليمنية، وعدم خضوع السفن التجارية للتفتيش فيه، إلا في حال وجود بلاغات مسبقة، وذلك ما يسهل عبور شحنات السجائر المهربة إلى اليمن، بحسب (ف. س. ن) وهو مصدر في مصلحة الضرائب اليمنية، تحدث لـ"الموقع بوست".

 

 

تمكث بضائع "السجائر المهربة" لبعض الوقت في ميناء جيبوتي، ثم تُهرب عبر البحرين الأحمر والعربي، ومضيق باب المندب، إلى الموانئ اليمنية في عدد من المحافظات، وهي: لحج والحديدة والمهرة وتعز وحضرموت، والتي تعد نقاط وصول ثانية للسجائر قبل انتشارها في الأسواق، ومن أبرز تلك الموانئ: ميناءا "المكلا" و"الشحر" في حضرموت، ومنفذ "شحن" وميناء "نشطون" في المهرة، وموانئ "اللُحية" و"الخوخة" و"يختل" في الحديدة، وموانئ "المخا" و"ذباب" و"واحجة" في تعز، وميناء "رأس العارة" في لحج.

 

وذكر المصدر في مصلحة الضرائب اليمنية أن جميع السواحل اليمنية باتت مفتوحة أمام عمليات التهريب، بفعل فوضى الحرب، مؤكدا أن عمليات التهريب الأكثر خطورة تصل إلى الساحل الغربي الممتد من "الخوخة" في الحديدة، إلى "رأس العارة" في لحج، وهو المفضل لمهربي السجائر، وذلك لقربه من مناطق القرن الأفريقي، ولاحتوائه على مناطق مفتوحة، تُسهل عمليات تهريب البضائع إلى اليمن.

 

 

ما إن تصل الشحنات البحرية التي تقل بضائع السجائر إلى نقاط الوصول في الموانئ اليمنية، حتى يتم إفراغ حمولتها إلى سفن نقل صغيرة تقل البضائع بدورها إلى مناطق أقرب، ثم تفرغها إلى قوارب صغيرة، تتكفل بإيصال الكميات إلى مخازن هي عبارة عن أحواش مملوكة للمهربين، وقريبة من الشواطئ، ومخصصة لتخزين السجائر المهربة، التي تظل هناك لأيام قليلة، قبل أن تبدأ عملية تهريبها برا على شاحنات نقل تتكفل بإيصالها إلى عدد من المحافظات اليمنية.

 

طرق التهريب البري

 

تنطلق عمليات التهريب من الساحلين الغربي والجنوبي عبر ثلاث طرق برية "ترابية"، يبدأ مسار الرحلة الأولى من منفذ و"احجة" في المخا، مرورا بمناطق "موزع" و"أروع"" والدوش" ثم "الوازعية" (جنوبي تعز) وصولا إلى منطقة "طور الباحة" في لحج، وأخيرا الانتشار في أسواق المحافظات الجنوبية، ويخضع هذا الطريق لسيطرة "القوات العسكرية المشتركة" التي يقودها طارق صالح، عضو مجلس القيادة الرئاسي.

 

وتنطلق الثانية من منطقة السقية في لحج، مرورا بمنطقة "رأس العارة" ثم "رأس عمران" وصولا إلى أسواق المحافظات الجنوبية كذلك، ويخضع هذا الطريق لإشراف كل من "القوات المشتركة"، وقوات الحزام الأمني التابعة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي".

 

 

أما الرحلة الثالثة، فتنطلق من منطقة "رأس العارة" في لحج، مرورا بـ"طور الباحة"، ثم "مناطق الصبيحة"، وصولا إلى مدينة "التربة" (جنوبي تعز)، ثم مديرية "سامع"، ووصولا إلى مديرية "خدير بتعز،" ثم "الحوبان" والانتشار في أسواق المحافظات الشمالية، ويخضع هذا الطريق لسيطرة كل من قوات "الانتقالي الجنوبي"، و"الجيش الوطني الحكومي"، و"جماعة الحوثي".

 

مسارات سريعة

 

وإضافة للطرق الترابية، توجد ثلاث طرق "إسفلتية" يسلكها مهربو السجائر لإيصال البضائع إلى الأسواق اليمنية، تبدأ الرحلة في الطريق الأولى من ميناء المخا ثم و"احجة" و"جبل النار" مرورا بـ "الوازعية" و"جبل حبشي" والانتشار في أسواق مدينة تعز، وتخضع هذه الطريق لسيطرة كل من "القوات المشتركة" و"الجيش الوطني".

 

وتسلك الرحلة الثانية مسارا معاكسا للطريق الأولى، فهي تنطلق من منطقة و"احجة" ثم "المخا" فـ "الزهاري" و"حي سالم"، وصولا إلى مدينة الحديدة غربا، ثم الاتجاه صوب صنعاء، والانتشار في أسواق المحافظات الشمالية، وتقع هذه الطريق تحت سيطرة كل من "جماعة الحوثي" و"القوات المشتركة" التي يديرها طارق صالح عضو مجلس القيادة الرئاسي.

 

أما الرحلة الثالثة فتنطلق في طريق (إسلفتي - ترابي) من منطقة "رأس العارة" في لحج، ثم "المخا" فالـ "الكدحة" و"ميراب" (غربي تعز)، وصولا إلى "شرعب الرونة" ثم المضي صوب "مفرق الذكرة" غرب المدينة، والتوجه شمالا صوب أسواق "إب" و"ذمار" و"صنعاء"، ويخضع هذا الطريق لإشراف قوات كل من: "الانتقالي الجنوبي" و"الجيش الوطني" و"جماعة الحوثي".

 

تواطؤ واسع

 

وتجري رحلات تهريب السجائر من مناطق الوصول إلى عدد من المحافظات اليمنية، عبر طرق تهريب خاصة بكل محافظة، وذلك تحت علم وإشراف جميع الفصائل العسكرية المحسوبة على الحكومة، والتابعة للحوثيين على حد سواء، إلى جانب جماعات محلية أخرى.

 

 

يؤكد سعيد المخاوي، أحد سائقي الشاحنات الذين يعملون على تهريب السجائر من منطقة "رأس العارة" في لحج إلى مدينة تعز، أن جميع الشحنات التي تصل إلى مدينة تعز تمر على مرأى من جميع النقاط الأمنية المتناثرة على امتداد الطريق الواصل بين المحافظتين، والممتد لأكثر من 80 كم.

 

ويقول في حديث لـ"الموقع بوست"، إن القائمين على النقاط (الحواجز) الأمنية في هذا الطريق، والذين يتبعون ثلاث قوى عسكرية، وهي: القوات المشتركة، والحزام الأمني، والجيش الوطني؛ لا يشترطون على المهربين إبراز أي أوراق رسمية، ويسمحون بمرور الشاحنات مقابل مبالغ متفاوتة يتلقونها تصل أحيانا إلى 50 ألف ريال على الشاحنة الواحدة.

 

وطبقا لحديثه فإن كافة النقاط الأمنية تتلقى مبالغ مقابل السماح بعبور شاحنات تهريب السجائر التي تقصد الوصول إلى محافظة تعز، باستثناء نقطة "الهنجر" المرابطة في المدخل الجنوبي للمدينة، التي تفرض رسوما على كل شاحنة بنحو 60 ألف ريال، جزء منها يذهب لصالح صندوق التحسين والنظافة بالمحافظة.

 

تورط جهات عسكرية

 

وتُهرب السجائر من موانئ تخضع لسيطرة الحكومة اليمنية في لحج وعدن وتعز إلى مناطق سيطرة الحوثيين، وهناك جهات عسكرية وقيادات محسوبة على الحكومة اليمنية تسمح بعبور السجائر المهربة مقابل مبالغ مالية تتلقاها، وبالتالي فهي متورطة بشكل مباشر في عمليات تهريب السجائر التي تُخسّر الاقتصاد اليمني 500 مليون دولار كل عام، بحسب مصادر اقتصادية.

 

 

مصادر عديدة أكدت لمعد التحقيق تورط جهات عسكرية محسوبة على الحكومة في عمليات تهريب السجائر، وأكد مسؤول حكومي في مديرية الوازعية بمحافظة تعز لـ"الموقع بوست"، أن قيادات فيما تسمى بالقوات المشتركة تشرف على عمليات التهريب التي تمر عبر المديرية، وتؤمن الطريق للمهربين مقابل رشاوى تتلقاها وتورد لصالح هذه القيادات.

 

وتحدث المصدر الحكومي الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، عن امتلاك العديد من الشاحنات التي تقل كميات هائلة من السجائر المهربة والتي تمر عبر الوازعية، لتصريحات رسمية ممنوحة من قوات التحالف العربي، وهو ما يجعل أجهزة الرقابة الحكومية عاجزة عن التصرف أمام ذلك.

 

فساد وغياب الرقابة

 

يغيب الدور الرقابي للحكومة في المناطق البحرية التي تُهرب منها السجائر، وهو في أفضل الأحوال مشلول أو عاجز عن التصرف، بسبب تعدد ولاءات السلطات الأمنية والعسكرية في المناطق المحسوبة على الحكومة التي تمر عبرها السجائر المهربة.

 

ولا يتوقف الأمر عند غياب الدور الرقابي للأجهزة الحكومية فحسب، بل يمتد إلى مستوى التواطؤ وأكثر من ذلك الإشراف على عمليات التهريب.

 

يؤكد محمد عطاء (اسم مستعار)، وهو موظف في ميناء المخا، ضلوع قيادات عسكرية وأمنية محسوبة على الحكومة اليمنية في جريمة تسهيل عبور شحنات السجائر المهربة إلى الداخل اليمني، لقاء رشاوى تتلقاها من شبكات التهريب.

 

وذكرت مصادر متعددة تحدثت لمعد التحقيق أن هذه القيادات التي تمارس هذا النوع من الفساد بتخليها عن مسؤولياتها القانونية المتمثلة في مكافحة عمليات التهريب، تجني أموالا طائلة من الرشاوى التي تقبضها لقاء تسهيل مرور شحنات البضائع المهربة، التي تعبر من المناطق الواقعة ضمن نطاق إشرافها، وهو ما يخالف بشكل صريح القانون 26 في الدستور اليمني، الخاص بمكافحة التدخين ومعالجة أضراره، حيث تنص المادة 20 فيه على مصادرة أي كمية من السجائر تدخل إلى البلاد بطريقة غير قانونية، وتغريم كل من المهرب والبائع المحلي بمقدار ثمن الكمية التي بحوزته.

 

 

تتجه أصابع الاتهام تحديدا في مسألة التواطؤ مع عمليات التهريب تلك إلى قيادات في القوات العسكرية التي تدير المناطق التي تتسلل عبرها السجائر المهربة، والمتواجدة في نطاق الساحلين الغربي والجنوبي لليمن، وتخضع لسيطرة "القوات المشتركة"، والقوات العسكرية والأمنية التابعة لـ"لمجلس الانتقالي" التي تسيطر على الساحل الجنوبي الممتد من محافظة لحج وحتى شبوة.

 

تنصل من المسؤولية

 

تواصل معد التحقيق بالناطق الرسمي للقوات المشتركة في الساحل الغربي، العقيد "وضاح الدبيش"، للتأكد من حقيقة وجود قيادات عسكرية محسوبة على الحكومة متورطة في عمليات تهريب السجائر، فأقر بذلك دون أن يذكر أسماءهم، نافيا وجود أي من أشكال الاتفاق بين القوات المشتركة وشبكات تهريب السجائر.

 

وقال الدبيش في حديث لـ"الموقع بوست" إن ظاهرة تهريب السجائر إلى اليمن ليست جديدة، لكن نشاطها تضاعف خلال السنوات الأخيرة بسبب الفوضى الأمنية الناجمة عن أزمة الحرب.

 

وذكر أن عمليات تهريب السجائر تدار بشكل منظم وتقف خلفها شخصيات نافذة متعددة، مؤلفة من قيادات عسكريه ومسؤولين حكوميين لم يذكر أسماءهم، لكنه قال إنهم مسؤولون بارزون، مؤكدا أن تلك الشخصيات تجني أموالا طائلة قدّرها بملايين الدولارات مكنتها من بناء نفوذ وسلطة متعاظمين، وتدعيم مصالحها المرتبطة بأنشطة تهريب البضائع إلى اليمن.

 

وثيقة صادرة عن التحالف العربي تسمح بمرور شاحنة محملة بسجائر

 

وأكد المسؤول العسكري وجود قادة عسكريين وأمنيين فاسدين يقدمون تسهيلات بشكل غير رسمي للمهربين لتمرير البضائع المهربة لقاء رشاوى يتلقونها بشكل دوري من نافذين يستغلون غياب الدولة وضعفها لتكثيف نشاطات التهريب، مرجعا أسباب ذلك إلى الأطماع الشخصية لدى هؤلاء القادة، ولكونهم حديثي الانتساب للأجهزة الأمنية والعسكرية.

 

ويعزو الدبيش ذلك الفساد إلى حالة الحرب والتفكك الذي حدث لقوات مكافحة التهريب اليمنية، إلى جانب حداثة منتسبي وقادة المؤسسات التي يفترض أنها تابعة للحكومة اليمنية.

 

وتحدث عن قيام "القوات المشتركة" التي ينتمي لها، بالتعاون مع تشكيلات "الحزام الأمني" التابعة للانتقالي الجنوبي، وقوات أمن محافظة لحج، في إنشاء ميناء بحري في منطقة "رأس العارة" بمحافظة لحج، والذي أُسس بهدف مواجهة عمليات التهرُب الضريبي واكتشاف عمليات التهريب الأكثر خطورة، لكنه أكد أن الأموال التي يتم تحصيلها من هذا الميناء لا تورد إلى خزينة الدولة، وتذهب لجيوب قادة نافذين ينتمون لتلك القوات.

 

وفي محافظة المهرة تعمل شبكات متعددة في تهريب السجائر عبر مناطق قريبة من ميناء نشطون، وهذه المناطق تسيطر عليها قوات تابعة للشرعية، وبحسب محمد جمال (اسم مستعار) مسؤول بارز في مصلحة جمارك المهرة، فإن شبكات التهريب تقوم بنقل هذه البضائع من السفن الكبيرة عبر قوارب صغيرة ومن ثم يتم نقلها إلى مخازن في المحافظة ومن ثم يتم توزيعها إلى سائقي الناقلات ونقلها إلى المحافظات القريبة عبر طرق متعددة يسلكون منها وتحت مرأى ومسمع الجميع، وهناك نقاط أمنية تفرض على هذه البضائع رسوما لمصلحة صندوق التحسين والنظافة.

 

ضلوع الحوثيين

 

تتعدد الجهات التي تقف خلف عمليات تهريب السجائر والإتجار بها، فهناك نافذون يديرون -بشكل مباشر وغير مباشر- الشبكات التي تنشط في تهريب السجائر من البلدان الأجنبية إلى اليمن، وتمكن معد التحقيق من الوصول إلى طرف خيط يقود إلى أسماء عدد من أباطرة الإتجار بالسجائر المهربة، وهم تجار ورجال أعمال تابعون لجماعة الحوثي، ويعدون أهم أبرز من يقف خلف هذا النشاط التجاري غير القانوني.

 

حصل معد التحقيق على معلومات من مصدر رفيع في "شركة كمران" تؤكد إنشاء جماعة الحوثي شركات لاستيراد السجائر المهربة والمتاجرة بها، ضمن نشاط الجماعة التجاري لتمويل اقتصادها الخاص.

 

إنشاء شركة سجائر في صنعاء - إعلان في صحيفة حكومية

 

يقول المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، والذي نشير إليه بالرمز (ق. س)، إن جماعة الحوثي عقدت في العام 2017 اجتماعا مع مدراء الشركات الوطنية للتبغ والكبريت، برئاسة "مهدي المشاط" الذي كان حينها رئيسا للجنة الاقتصادية للحوثيين، طالبة منهم القيام بإنتاج سجائر مقلدة لصالح ثلاثة من سماسرة النشاط التجاري غير القانوني الذين يعملون لصالح الجماعة، وهم: صالح دغسان، ومعاذ الطلح، ومحمد صالح الحبيشي، لكنه قال إن هذا الطلب قوبل بالرفض من قبل مدراء شركات التبغ.

 

وذلك ما دفع الجماعة إلى التصرف بشكل مختلف، فقد خولت رجل الأعمال الموالي لها، صالح دغسان، بإنشاء شركة تجارية لإنتاج السجائر المقلدة، أُطلق عليها "شركة التاج الدولية المحدودة للتبغ"، التي -وبحسب المصدر- أنشأت مصنعا لها في المنطقة الحرة بـ"جبل علي" بالإمارات، وينتج صنف السجائر المعروف في اليمن بماركة "شملان" بأنواعه المختلفة، وتقوم الشركة بتهريبه من "جبل علي" إلى اليمن ودول أخرى منها السعودية، والعراق، ومصر، وعُمان.

 

وثيقة لصندوق النظافة والتحسين في حضرموت لفرض الضرائب

 

شبكات التهريب

 

وتنشط الجماعة في الإتجار بالسجائر المهربة، حيث يدير عدد من التجار الذين يعملون لمصلحتها -بشكل غير مباشر- الشبكات التي تقوم بتهريب تلك السجائر من "جبل علي" في الإمارات إلى الأسواق اليمنية.

 

ويعد سعيد حيدرة، وناصر قبيع، من أبرز مهربي السجائر إلى اليمن، وتعمل تحت إدارتهم شبكات التهريب الصغرى المخولة بتخزين كميات السجائر، وإدارة أنشطة النقل البري والبحري، وكلاهما يخدمان سماسرة أرفع منهما يعملون بدورهم لمصلحة الحوثيين.

 

ويدير الشبكات المخولة بتنزيل وتخزين السجائر المهربة التي تفد إلى أماكن الوصول في عدد من المناطق بالمخا ولحج والحديدة؛ كلٌّ من المدعوين عارف موزع، ومحمد حسن مكي، وتتألف الشبكة الواحدة من 50 فردا.

 

أما شبكات النقل البري المخولة بتهريب السجائر إلى المحافظات اليمنية، فتدار من قبل ثلاثة سماسرة، وهم: علي البيضاني، ومحمد الرداعي، وعلي الحشاش، ويملكون أسطولا من شاحنات النقل المناط بها تهريب البضائع من نقاط الوصول الساحلية إلى عدد من المحافظات اليمنية.

 

قطاع يخدم الحوثيين ويخسّر الحكومة

 

تمثل "السجائر المهربة" نشاطا صناعيا وتجاريا عالميا غير خاضع للرقابة القانونية ورقابة الجودة العالمية كذلك، وتعد من أهم القطاعات التجارية التي تموِّل العصابات الإجرامية والمنظمات الإرهابية كما يجري في اليمن، والتي تعتمد جماعة الحوثي في جزء من تمويلها الذاتي على الإتجار بالسجائر المهربة.

 

يؤكد (ق. س) المصدر المسؤول في شركة "كمران" هذه المعلومة، ويقول إن قيادات في جماعة الحوثي -فضل عدم ذكر أسمائها- تسيطر بشكل كلي على تجارة "السجائر المهربة" في اليمن، والتي تعد أحد أكبر مصادر الدخل المالي للجماعة.

 

وثيقة لصندوق النظافة في عدن لتحصيل الرسوم من السجائر

 

تورد السجائر المهربة إلى منافذ يقع معظمها تحت سيطرة الحكومة الشرعية، لكن الأخيرة لا تستفيد شيئا من ذلك، حيث تمر بضائع السجائر من مناطق الحكومة بشكل غير قانوني، ولا تخضع لرسوم جمركية، باستثناء نقاط التحصيل الجمركي في ميناء "رأس العارة" بمحافظة لحج، التي تحصّل موارد مالية لا تجد سبيلها إلى خزينة الدولة وتذهب إلى جيوب نافذين.

 

في المقابل، تخضع السجائر المهربة لشروط جمركية لدى وصولها مناطق سيطرة الحوثيين، وعلى الرغم من كونها نشاطا تجاريا تسيطر عليه الجماعة ذاتها، إلا أن الأخيرة تفرض في مداخل المدن التي تسيطر عليها رسوما جمركية على السجائر المهربة، لكن هذه الرسوم تذهب لمصلحة قيادات الجماعة، مضاعفة بذلك أرباحها إلى مستويات عالية.

 

وتؤكد وثيقة حصل عليها معد التحقيق أن إجمالي نسبة ما حصلت عليه جماعة الحوثي من الإيرادات المالية التي تأتيها من جمارك السجائر المهربة وصل إلى 43 مليارا و128 مليون ريال خلال الأعوام الثلاثة 2019، 2020، 2021.

 

خسائر اقتصادية

 

وتتكبد الخزينة المالية للحكومة الشرعية خسائر فادحة تصل إلى 500 مليون دولار كل عام، بسبب عمليات تهريب السجائر، ذلك أن ضرائب التبغ المنتج محليا والذي تراجع مؤخرا بفعل تدفق السجائر المهربة، كانت تعد ثاني أكبر مورد للاقتصاد اليمني بعد النفط، بحسب تقارير اقتصادية متعددة، لذا تخسر اليمن المليارات من الريالات كل عام، وهي مبالغ كان يفترض أن تجنيها كإيرادات ضريبية من السجائر المستوردة بشكل قانوني، ومن الإنتاج المحلي الذي كان مزدهرا قبل تسلل الأنواع المهربة، واستحواذها على الأسواق اليمنية.

 

وخسر الاقتصاد اليمني نحو 111 مليار ريال خلال السنوات الست الماضية، بفعل انخفاض عائدات ضرائب السجائر المصنعة بشكل قانوني، بعد انخفاض حجم إنتاجها من 90% خلال فترة ما قبل الحرب إلى 43% فقط خلال السنوات السبع الأخيرة، وفق تقرير حديث صادر عن شركة التبغ والكبريت اليمنية.

 

وقدر التقرير -الذي حصل "الموقع بوست" على نسخة منه- معدل الزيادة في السجائر غير القانونية "المهربة" المنتشرة في اليمن خلال السنوات السبع الأخيرة بأكثر من الضعف عما كان عليه الوضع خلال سنوات ما قبل الحرب، فمن 40% إلى أكثر من 80% وصلت نسبة السجائر المهربة، مقارنة بالإنتاج المحلي، خلال فترتي ما قبل الحرب وما بعدها، وهناك أكثر من 160 نوعا من السجائر المهربة تغزو الأسواق اليمنية اليوم.

 

نطاق انتشار شركة شملان لانتاج السجائر

 

يؤكد أحمد سلطان، وهو موظف في مصلحة الضرائب بمحافظة المهرة (شرقي اليمن)، لـ"الموقع بوست"، أن خسائر الحكومة اليمنية جراء عملية تهريب السجائر تصل خلال العام الواحد إلى 500 مليون دولار (279 مليار ريال يمني)، وهو مؤشر كبير لخسارة يُمنى بها الاقتصاد اليمني، ويساوي ما قدره 10% من النسبة الإجمالية للميزانية المالية السنوية للبلاد.

 

وتمتد الأضرار الاقتصادية التي يخلفها الإتجار بـ"السجائر المهربة" لتطاوِل مؤسسات خدمية حكومية متخصصة في شؤون منها الرعاية والتنمية والثقافة، كانت تعتمد في تمويلها بشكل جزئي أو كلي على الإيرادات المتحصلة من ضرائب السجائر، بناء على نصوص قانونية مشرعة بذلك في الدستور اليمني.

 

وتفتقر هذه المؤسسات وهي: "صندوق الرعاية وتأهيل المعاقين"، الذي كان يحصل على 500 ريال من كل صندوق متوسط من السجائر، بناء على نص قانوني بذلك، "وصندوق تنمية المهارات"، و"صندوق رعاية النشء والشباب"، و"صندوق التراث والثقافة"، الذين كانوا يعتمدون جميعا في جزء من نفقاتهم التشغيلية على الإيرادات الضريبية المتحصلة من السجائر؛ يفتقرون اليوم إلى النفقات التشغيلية الضرورية لتقديم مهامهم الخدمية بالشكل الطبيعي.

 

عنوان شركة شملان في دولة الإمارات

 

أضرار صحية مضاعفة

 

تسبب السجائر المهربة أضرارا صحية تصل إلى الضعف، مقارنة بنظيرتها من السجائر المصنعة وفق معايير الجودة العالمية، التي تخضع تجارتها للرقابة القانونية، فهي تتضمن مخاطر أقل من السجائر المهربة، التي لا تخضع لأي معايير جودة، ويأتي العديد منها من مصادر مجهولة.

 

ويعد التدخين واحدا من أبرز ثلاثة أسباب مؤدية للموت في اليمن، بعد الأعيرة النارية وحوادث السير، وفق بيانات منظمة الصحة العالمية، وبالنظر إلى تفشي السجائر المهربة في البلد على ذلك النحو المهول يغدو هذا الأمر مفهوما.

 

وذكر تقرير صدر مؤخرا عن وزارة الصحة اليمنية، أن جميع السجائر المهربة غير صالحة للاستهلاك بسبب تحلل المواد الكيميائية الموجودة فيها نتيجة تعرضها لأشعة الشمس وللرطوبة وسوء التخزين، وذلك خلال عمليات التهريب.

 

وثيقة يحذر فيها المركز القومي المصري من خطورة السجائر المهربة

 

ويحذر المتخصص في الصحة العامة، محمد المليكي، في حديث لـ"الموقع بوست"، من خطورة استهلاك السجائر المهربة، التي قال إنها تضر بصحة المدخنين، وتظهر آثارها المرضية بشكل سريع مقارنة بالسجائر الأخرى المصنعة وفق معايير الجودة، وذلك بسبب احتوائها على التبغ الأدنى جودة، وتضمنها على محتويات ضارة، أبرزها: نشارة الخشب، ومواد بلاستيكية، ونِسب عالية من مواد كيميائية سامة، منها: الكادميوم والرصاص والنيكوتين والقطران وأول أكسيد الكربون، والتي تصل إلى نحو 12.5ملغ في السيجارة الواحدة.

 

وتؤكد بيانات الإدارة العامة لمكافحة التدخين اليمنية احتواء السجائر المهربة على أربعة آلاف نوع من المواد الكيميائية الضارة، أبرزها: "البنزين"، و"الميثانول"، و"الأمونيا"، و"السيانيد"، و"الأسيتون"، و"الزرنيخ"، و"الرصاص"، و"الرادميوم"، و"الكادميوم"، و"الفورماليهايد"، و"الهايدر"، و"الكربون" و"البولونيوم"، ومعظمها مواد سامة ومسببة لأنواع متعددة من السرطان وأمراض الرئة والقنوات التنفسية.

 

أنواع متعددة للسجائر تغزو الأسواق اليمنية

 

ما كشف عنه التحقيق

 

يستمر تدفق السجائر المهربة إلى اليمن دون حسيب في ظل غياب جهات الرقابة الحكومية، بفعل الحرب، وتشظى الدولة، وتعدد السلطات الحاكمة، وأبان هذا التحقيق عن تحول الحرب الجارية في اليمن إلى مصدر للتربح، وبروز جماعات تمول أنشطتها من هذا النوع من التجارة السوداء، في حين يعيش البلد أسوأ أزمة إنسانية، وحالة عميقة من التشظي والتمزق الذي تعززه جماعات العنف.

 

إن أساليب وطرق التهريب، والمتورطين فيه، وفقا لما ورد في هذا التحقيق، يؤكد إلى أي مدى تلتقي مصالح أطراف الحرب في اليمن، بينما تبتعد يوما بعد آخر عن السلام، وتلتقي في طاولة المصالح المشبوهة، وتتفق جميعها على بقاء هذا الوضع، الذي يخدم أجندتها، ويمول أنشطتها وحربها.

 

وبشكل مجمل فإن الوطن هو الخاسر الأكبر من هذه العمليات المعقدة لتهريب السجائر، والدولة هي الحلقة الغائبة تماما، أما الضحية فهو الشعب الذي يتجرع الخسائر المادية الناجمة حينا، والتداعيات الصحية الكارثية حينا آخر.


التعليقات