[ سر تدفق المال السعودي للجامعات الأمريكية ]
تساءل مايكل سكولوف، المساهم في صحيفة “نيويورك تايمز”، عن السبب الذي يجعل المملكة العربية السعودية تضخ ملايين الدولارات سنويا في الجامعات الأمريكية، وماذا يتوقع حكام السعودية الحصول على مقابل منها؟
وفي تحقيق مطول تحت عنوان “لماذا توجد أموال سعودية في الجامعات الأمريكية؟”، أشار سكولوف في بدايته إلى احتجاجات طلابية العام الماضي أمام واحدة من أهم المؤسسات العلمية الأمريكية “معهد ماساسوشيتس للتكنولوجيا” (أم أي تي)، حيث كانوا يطالبون بإلغاء زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى المعهد العريق، ويريدون إثارة الانتباه للوضع الكارثي الذي خلقه في اليمن، بالإضافة لتركيز النظر على علاقة المؤسسة و62 جامعة أمريكية مع السعودية.
وكان محمد بن سلمان يقوم بجولة في الولايات المتحدة، حيث استقبله الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض وتحدث عن صداقة نشأت بينهما بسرعة، وشكره على صفقات السلاح التي تريد بلاده شراءها من أمريكا، وقال مازحا: “هذا لا شيء بالنسبة لكم”.
وأشار الكاتب إلى زيارة بن سلمان إلى كاليفورنيا، حيث حجز كل غرف فندق فورسيزونز (285 غرفة)، وكان ضيف شرف على روبرت ميردوخ، ومنها إلى سليكون فالي، حيث التقى مدير شركة أبل وكل المدراء المعروفين في صناعة التكنولوجيا. وفي سياتل، التقى مع جيف بيزوس، أثرى رجال العالم. وفي كل جولة بالجانب الغربي من الولايات المتحدة، ارتدى زيا حديثا: بنطال جينز وبلوزة مفتوحة، بدلا من الثوب السعودي والعباءة والكوفية الحمراء التي ظهر فيها في البيت الأبيض.
وقال روبرت جوردان، السفير الأمريكي السابق في إدارة جورج دبليو بوش: “كان شابا متحررا ويناسب سليكون فالي وجماهير هوليوود، وتم التلاعب بهم بسهولة” و”كان المال هو الذي يتحدث وفرصة الارتباط بالمملكة الثرية جدا”.
وكان من بين المتحدثين في التظاهرة أمام “أم أي تي” شيرين الأديمي (35 عاما) التي قضت شطرا من حياتها في اليمن، ويعيش أهلها الحرب الأهلية التي سقط فيها آلاف اليمنيين، ولكن لا أحد في الولايات المتحدة يعرف بها.
ولأن المساهمات المالية السعودية في الجامعات الأمريكية تأتي على شكل دعم مالي للبحث، وممولة بشكل كامل من شركة النفط العملاقة “أرامكو” والصناعات الأخرى المملوكة من الدولة، لم يكن هناك ما يدعو لرفض المساهمة المالية، ولهذا كانت أصوات المحتجين هامشية ومن السهل تجاهلها.
وتعيش الأديمي مع زوجها طالب الدكتوراة في “أم أي تي”، وكانت هي تنهي رسالتها في جامعة هارفارد. ولم تكن تهتم بالسياسة: “لو كان لدي شيء أقوله في الرأي العام لكان عن التعليم”، ولكنها بدأت تكتب عن التدخل السعودي في اليمن عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنشورات الأمريكية، ولبست في التظاهرة قميصا كتب عليه: “الرجل الذي تستقبله أم أي تي يقوم بتجويع ملايين اليمنيين للموت، ويمنع عنهم الطعام والدواء”. وكانت تقول ببساطة إن الجامعة تستقبل “مجرم حرب” وتجب معاقبته على جرائمه لا الترحيب به. وقامت هي وخمسة من المتظاهرين بدخول مبنى الجامعة، وسلمت عريضة عليها 4.000 توقيع لرئيسها رفائيل ريف تطالبه بإلغاء المناسبة. ولم يكن ريف في مكتبه، ولم يحصل المتظاهرون على رد.
وفي صباح اليوم التالي، قضى محمد بن سلمان ساعات في مخبر الإعلام بالمعهد، والذي تقدمه الجامعة على أنه أهم ما تملكه من ناحية البحث، وبميزانية سنوية بلغت 75 مليون دولار، تسهم فيها 90 شركة ومؤسسة منها مؤسسة محمد بن سلمان، إذ تساهم كل واحدة منها بـ 250.000 دولارا سنويا. وفي ذلك اليوم، وقعت السعودية مع الجامعة عقدا بـ23 مليون دولار يمدد الدعم لمخبر الإعلام، ولعقد آخر مع شركة البتروكيماويات السعودية، سابك، لتطوير أبحاث متقدمة لتصفية الغاز الطبيعي. في أثناء زيارة الأمير محمد، بدت السعودية كبلد يتحرر، إذ سمح للمرأة بقيادة السيارة وفتحت دور السينما (كان أول فيلم يعرض بلاك بانثرز بدون المشهد الأخير). وفي نهاية ذلك العام، قتل الصحافي جمال خاشقجي بطريقة بشعة في قنصلية السعودية بإسطنبول.
وفي نفس الشهر، تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت “أم أي تي” أنها تقوم بتقييم علاقاتها مع المملكة. وعيّن العميد ريتشارد ليستر، الذي يشرف على علاقات الجامعة مع الكيانات الأجنبية لكي يقوم بالمراجعة. وهو مهندس نووي بالتدريب وانضم للجامعة منذ كان في العشرينات من عمره، عام 1979 وكانت مهمته البحث في مصدر المال وإن لم يكن شرعيا ويقضي برفض التعاون مع الجهة التي تبرعت به، وهي مهمة ليست بالسهلة. والمشكلة هي أنه لو مضت الجامعة في هذا الطريق فستنظر في كامل نظام التبرعات والجهات التي سترفضها والأسماء التي ستحذف من قائمة المتبرعين.
وفي تقرير مبدئي كتبه ليستر في كانون الأول/ديسمبر 2018، وزعه على هيئة المدرسين والطلاب قال فيه إن واحدا من حاشية محمد بن سلمان أثناء زيارته للجامعة من المتورطين في قتل خاشقجي، في إشارة لماهر المطرب و”هذا الشخص تعامل مع مجتمع أم أي تي في ذلك الوقت- تدخل غير مرحب به وغير مريح في مساحتنا مع أنه حدث في الماضي”. وأعادت شركة “إندفور” للترفيه 400 مليون دولار للمملكة هذا العام فيما احتفظت بقية المؤسسات الأكاديمية الأمريكية بعلاقاتها مع السعودية.
ورغم إعدام السعودية 37 شخصا في نيسان/أبريل، إلا أن المستثمرين اشتروا سندات أصدرتها أرامكو في نفس الشهر، فيما تخطط شركة “إي أمي سي” لبناء دور جديدة للسينما. ولكن الناشطين في حرم الجامعات يريدون هدفا أعلى من جامعاتهم.
ويرى الكاتب أن “أم أي تي” ليست بحاجة للمال السعودي، فهي من الجامعات الأكثر ثراء في أمريكا ويعدل ناتجها المحلي العام سبعين دولة منها منغوليا ونيكاراغوا وجمهورية الكونغو. والمال الذي تحصل عليه من المصادر السعودية قليل نسبيا لا يتجاوز 10 ملايين على مدى سنوات مع أنها تلقت هدايا من أثرياء سعوديين وصلت قيمتها حوالي 43 مليون دولار.
ويطالب القانون الفدرالي الجامعات بالكشف عن الدعم المالي من هيئات خارجية إن تجاوز 250.000 دولار ويتم تسجيله في وزارة التعليم ضمن تقرير الهدايا الأجنبية. ويكشف التقرير أن المال السعودي يتدفق إلى جامعات النخبة الأمريكية مثل “أم أي تي” ونظيراتها، هارفارد وييل ونورثويسترين وستانفورد ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والجامعات العامة مثل ميتشغان وكاليفورنيا بيركلي وإلى المعاهد العلمية في مناطق إنتاج النفط مثل “تكساس إي أند أم”، وجامعات الولايات مثل جامعة واشنطن الشرقية وجامعة بال. ويأتي المال السعودي في الجامعات الاخيرة على شكل رسوم دراسية ونفقات الطلاب السعوديين.
وتعد السعودية بسكانها البالغ عددهم 34 مليون نسمة، الدولة رقم 41 من ناحية التعداد السكاني في العالم. ولديها 44 ألف طالب في أمريكا، حيث يأتي ترتيبها بعد الصين والهند وكوريا الجنوبية. وبهذا يمثلون مصدرا جيدا للموارد الجامعية. وبدأ الطلاب السعوديون بالتدفق بأعداد كبيرة بعد عام 2005 عندما اتفق ولي العهد في حينه ثم الملك عبدالله مع جورج دبليو بوش بلقاء عقد في منتجع كروفورد تكساس، على طرق للتعاون وتقوية العلاقات في مرحلة ما بعد 9/11 حيث شارك فيها 15 سعوديا من 19 منفذا.
وتدفع الحكومة السعودية رسوم الطلاب مباشرة بناء على عقود منفردة، وتقوم الملحقية الثقافية السعودية في نورثرن فيرجينيا، بإدارة الطلاب ومساقاتهم الدراسية، حيث يتم إخبارها حالة قرر طالب تغيير تخصصه الدراسي. وينص العقد المالي على دفع الحكومة السعودية الرسوم في المساق المعين وتغييره يعني قطع التمويل. والسعودية هي الدولة الوحيدة التي تمول دراسة أبنائها بالكامل، فالطلاب الأجانب بمن فيهم 300 ألف طالب صيني يمولون دراستهم بدعم عائلي أو بمنح دراسية جزئية من الدولة. وفي عام 2018 أسهمت رسوم 411 طالبا سعوديا في جامعة واشنطن الشرقية بـ 12% من الرسوم الدراسية الإجمالية للجامعة مع أن نسبتهم لم تتجاوز 3%، أما جامعة نورثرن كينتاكي فقد درّست على مدى عقد 700 طالبا سعوديا. وعادة ما يسكن الطلاب وعائلاتهم بشكل يدعم الاقتصاد المحلي خاصة قطاع السيارات كما يقول فرانسوا لي روي، مدير التعاون الدولي في الجامعة. ويقول الكاتب إن الطلاب السعوديين عادة ما يكون أداؤهم التعليمي أقل من الطلاب الذين يأتون إلى أمريكا من الصين وغيرها. وعادة ما يبحثون عن جامعات يستطيعون الحصول على قبول فيها. وفي “أم أي تي” لم يدرس سوى 6 طلاب مرحلة جامعية أولى، و27 مرحلة عليا من بين 11.600 طالبا مسجلا في عام 2018.
وفي 25 جامعة تعمل مع أرامكو وشركة سابك أو جامعة الملك عبد العزيز للتكنولوجيا، تركز معظم العقود على ملامح تقنية في صناعة الغاز الطبيعي والنفط. فيما يعمل الاقتصاديون بمدرسة كيندي في هارفارد مع الحكومة السعودية على دراسة مستقبل سوق العمل السعودي في مرحلة ما بعد النفط. أي أبحاث استشارية مع أن الجامعات لا تطلق عليه هذا بل تسميه أبحاثا أكاديمية.
ويرى الكاتب أن المنافع التي تحصل عليها السعودية واضحة، فبالإضافة لحصولها على مدخل للعقل الأمريكي الأكاديمي فإن علاقتها مع مؤسسات مثل “أم أي تي” تخفف من صورتها وتبدو وكأنها دولة منفتحة مع أنها ملكية مطلقة تضطهد المرأة والمثليين ولا يوجد فيها قانون لحماية الصحافة.
وهناك أمر آخر يتعلق بالماركة وتغيير الصورة، فدعمها في الفترة الأخيرة للمناسبات الرياضية كان تعبيرا عن القوة الناعمة كما يقول السفير السابق جوردان. وبعد زيارته لـ”أم أي تي” سافر موكب الأمير لجامعة هارفارد حيث شارك بلقاء حول طاولة مستديرة، وتبعه حفل استقبال ولقاء مع الطلاب في الجامعة. ولم يسأل أحد عن اليمن أو أي شيء. كان الأمر مجرد “عرض سلام دون كلام” كما يقول من ساعد في تنظيم اللقاء، مضيفا أن الزيارة كانت “علاقات عامة” أو “فضولا حقيقيا لمعرفة ما يجري في الجامعة”.
وفي الوقت نفسه تؤكد الجامعات أن تعاونها مع السعودية عامل مهم في تحريرها، مثل جامعة نيوهيفن، التي تقول إنها تدرب ضباط الشرطة السعوديين وتجعل الطلاب السعوديين أقل ميلا للمشاركة في ملاحقة أو تعذيب المعارضين. ويقول ستيفن كابلان، مدير الجامعة: “نقوم بالمساعدة على تنفيذ تغيير يغرس في عقول المواطنين هناك القيم التي تجعلهم قادرين على مقاومة ومعارضة كل الأفعال الرهيبة”.
وبالنسبة للنقاد فإن الجامعات تقوم ببيع بضائعها. وحسب سالي هاسلانغر، استاذة الفلسفة في “أم أي تي” فالجامعات تمنح “رأسمال رمزي” وتبيع اسمها ومصداقيتها وسجلها العلمي “واستخدمناه لتلميع صورة محمد بن سلمان”. ويرى الكاتب أن النقاش حول علاقة الجامعات الأمريكية مع السعودية يعيد للذاكرة النقاش حول مقاطعة النظام العنصري في جنوب أفريقيا قبل عقود وفي الفترة الاخيرة الدعوات من بعض الدوائر لمقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين بسبب الاحتلال.
وعادة ما يريد الطلاب وأعضاء هيئة التدريس أن تعكس الجامعات حسهم الأخلاقي وغضبهم، ولكن الجامعات ترفض عادة. فقد وجهت السعودية 650 مليون دولار للجامعات الأمريكية في الفترة ما بين 2012- 2018 وهي ثالث مصدر للمصادر المالية.
والموقع الأول هو لقطر الدولة الخليجية الصغيرة والمحاصرة من السعودية. وتضم القائمة أعداء أمريكا مثل الصين وروسيا. ويظل تقرير الهدايا الأجنبية غير مكتمل لأن الجامعات لا تسجل كل شيء وبعضها لا تلتزم بالقانون، وربما زادت نفقات السعودية على التعليم في أمريكا مليار دولار، كما أن الجامعات نفسها لا تدري ما يجب عليها تسجيله أم تركه.
ويقول المسؤولون في “أم أي تي” إن مواردهم من العقود مع أرامكو هي 10 ملايين في السنة، وهي مبلغ قليل من شركة تحصل على مليار دولار في اليوم. ويعلق الكاتب أن علاقة الجامعات بالسعودية تطرح موضوعا آخر وهو إن كان عليها التعبير عن مواقف سياسية أو أخلاقية. مشيرا إلى أن سلوك السعودية كان كافيا لتحرك في الكونغرس الشهر الماضي لمنع صفقات سلاح إلى السعودية والإمارات. وبعد ثمانية أشهر من حديثها أمام “أم أي تي” كانت الأديمي واضحة: “ابتعدوا عنه” أي محمد بن سلمان “فلو كان المعني أفريقيا أو أمير حرب من بلد فقير هل كنا سندير هذا الحوار”. ويشير الكاتب إلى أن هناك أسبابا لتجنب انتقاد السعودية من الجامعات بعد الأزمة الدبلوماسية العام الماضي مع كندا التي استدعت فيها السعودية طلابها من هناك.
وعلى خلاف ما تقوله الجامعات من دعمها للتحديث، نقل الكاتب عن طالب سعودي اشترط إخفاء هويته قوله: “حرية التعبير مضت في الاتجاه الآخر، ولا يمكنك المخاطرة حتى بالنقد الهادئ ولو كان النقد واضحا فأخشى أنك ستنتهي في السجن”.
وفي الوقت الذي اتسم به تقرير ليستر، من “أم أي تي” بالصراحة حول فظاعة جريمة خاشقجي ودعوة طلاب الجامعة لقطع العلاقة مع السعودية، إلا أن العميد أوصى الإدارة في النهاية بقطع علاقتها مع مؤسسة محمد بن سلمان “مسك” والحفاظ على التعاون مع بقية المؤسسات الأخرى مثل ارامكو وسابك وجامعة مدينة الملك عبد العزيز التكنولوجية.