إثيوبيا... عناق الأسطورة والتاريخ
- الخليج الإماراتية - قرشي عبدون السبت, 20 أغسطس, 2016 - 08:53 مساءً
إثيوبيا... عناق الأسطورة والتاريخ

إن قضاء يوم تائهاً وسط متاهات الأزقة المرصوفة بالأحجار الكبيرة في مدينة هرر لهو بداية رحلة مثالية إلى أركان إثيوبيا العميقة، فإذا اتجهت من هنا شمالاً تجد بلاد عفار، وعلى امتداد طول الطريق تجد «دناكيل» وهي أسخن نقطة في العالم على الحدود مع إريتريا، فقد لا تحتاج المضي إلى أبعد من ذلك مغامراً ومستكشفاً، لأن بإمكانك التمتع بزهو وجمال أهل هذا البلد من الذين يقطنون في المناطق الصحراوية.

بإمكانك قضاء ليلة في قرية بالقرب من مقاطعة مايلي في منطقة عفار التي يمكنك بدء رحلتك السياحية منها إلى دهاليز التاريخ الذي يعود لعدة ملايين حيث موقع الهيكل العظمي «لوسي»، وهو أقدم هيكل لكائن شبيه بالإنسان عثر عليه على وجه الأرض، أما الممرات الضيقة لوادي ريفت من منطقة مايلي فتأخذك إلى مدينة باتي الشهيرة بسوق الماشية الكبيرة.

هنا في إثيوبيا الأسطورة تعانق التاريخ إلى مدى يصعب فيه فهم أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر، لا يهم إلى أين تذهب في هذه البلاد، فصحاريها مصنوعة من الذهب وقرود الرباح لديها قلوب تنزف دماً، بالإضافة إلى قديسيها الكثر، وملوكها وأرواحها ووحوشها، وزهادها الجائلين الذين تظن أنهم يتبعونك.
 
ولكن هناك بعض الأماكن في إثيوبيا تحكي عن أساطير عميقة لدرجة تتخيل نفسك فارساً يعتلي صهوة جواد أبيض متجه إلى قصر ملكة سبأ. للأسف معظم الناس معرفتهم بإثيوبيا ضئيلة على نحو كبير، ورغماً عن ذلك كلنا يعرف سيرة أشهر فتاة إثيوبية، حيث يعتقد بأنها كانت أجمل وأجذب سيدة وجدت في الكون برغم أن ساقيها كانتا مشعرتان وأظافر قدميها كانت كأظافر الشيطان، حيث لا تزال شهرتها باقية منذ 3 آلاف عام، ومع ذلك لا يذكر أحد اسمها، بالطبع هي ملكة سبأ، وفي إثيوبيا المعاصرة تعد واحدة من الشخصيات المؤسسة لإثيوبيا - الركن الأعجب في أسرار إفريقيا.

مملكة أكسوم المزدهرة
 
أكسوم العاصمة الأسطورية، فهل حقاً كانت هذه المدينة الصغيرة والمتسخة في شمال إثيوبيا في يوماً من الأيام عاصمة ملكة سبأ الجميلة؟ هل حقاً هناك كنوز من الأسرار العظيمة مخبأة في أعماق الجبانات غير المكتشفة؟ وهل فعلاً تلك الكنيسة الصغيرة تأوي نفس الفلك التي أنزلها موسى عليه السلام من جبل سيناء ؟

إن من بين القصص المتعلقة بتاريخ القرون الوسطى في أوروبا هناك قصة عن مملكة مسيحية مزدهرة كان يحكمها قائد يدعى بريستور جون، حيث يعتقد بأن قصر بريستور كانت جدرانه من البلور وسقفه من أخشاب الآبنوس، حيث كان 30 ألف شخص يأكلون الطعام يومياً من موائده المصنوعة من الذهب، وتقول القصة أيضاً بأن هذه المملكة كانت مقرها في إثيوبيا الحالية وأن عاصمة الحاكم بريستور جون كانت هي مدينة جوندر الحالية، ولكن للأسف اتضح لاحقاً بأنها مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة ولكن جوندر بقلاعها العديدة وقصورها المشيدة من الأحجار، كانت حقيقية ولا تزال من المدن الإثيوبية البارزة.
 
كنيسة ديبر دامو الشهيرة
 
تعج شمال إثيوبيا بالأديرة القديمة التي تصدر صريراً عالياً، بالإضافة إلى الكنائس التي تتسم قممها بأسلوب بناء غريب، وأكثرها شهرة هي ديبر دامو، حيث تظهر من الأعلى على شكل طرز صخري، بناها القديس ابونا ارغاوي وهو راهب مسيحي سوري عاش في القرن السادس عشر، فاليوم وبالنظر إلى الجبل المتحدر من الجانبين على نحو شديد، قد تستغرب كيف كان هذا الراهب يتسلق إلى قمتها، ولكن المعلوم أنه كان لديه مساعدون، فالرب كان يعلم بأن هذا المكان مناسب للأديرة، ولذلك سخر له الله ثعابين ضخمة أسفل الجبل، ليتمكن من اعتلاء ظهرها للوصول إلى قمته، فتلك الثعابين الضخمة لكانت ستكون سعيدة بسماع أن رهبان اليوم يسحبون الزوار إلى أعلى الجبل عبر حبل مصنوع من جلد قوي.
 
أعجوبة مدينة اليبيلا
 
لن تكون سيرة إثيوبيا مكتملة بدون الحديث عن متاهة الكنائس المحفورة داخل الصخور الملونة بالصدأ في اليبيلا، فقد ولدت في منام، حتى أكثر السياح سخرية لا يجدون لها تفسيراً، إذ ينظرون إلى هذه الأعجوبة العالمية التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر، ثم يسألون، كيف ؟ ولماذا ؟ فقد قيل إنه عندما تم تسميم ملك اليبيلا من قبل أخيه غير الشقيق، حملته الملائكة إلى السماء الأولى والثانية والثالثة.
 
سوق الماشية بباتي
 
باتي بلدة صغيرة ومتسخة، لذلك دائماً ما يتم تجاهلها من قبل السياح، حيث يتسع حجمها كل يوم اثنين من أيام الأسبوع عندما تستضيف أكبر سوق للماشية في إثيوبيا، حيث تشاهد ترويض العير، وتسمع أغاني البوب الصادرة بقوة من الحافلات بأصوات عالية، بالإضافة إلى شغف التجار الذين يتجمعون في البلدة للشراء والمقايضة، والبيع والاستبدال، فلا تحاول أن تحصى أعداد الأبقار والعير التي تنضح بها السوق.

لسوق العير في البلدة مكانة علية، فالمئات من هذه المخلوقات التي ترقب الميدان بعيونها الكسولة تكون ممسكة من قبل أصحابها بحبال مسدلة من رقابها، فالعير حيوانات وديعة وهادئة على نحو مذهل، ولكن يبدو أن هدوءها عدوى تنتقل إلى كل السوق التي تتحرك بصورة بطيئة، فترى التجار يقفون وكأنهم تماثيل، لا يتحركون إلا عندما يلحظون ظللاً قليلة، فهم لا يصرخون ولا يتفاوضون بأصوات عالية، وفي ذات الوقت بالكاد تلحظ رزمات النقود تسلم بالأيدي، وبعده يغادر صاحب العير في صمت.

لقد أخبروني بأن ذكور العير هي التي تباع فقط في سوق باتي، أما الإناث فنادراً ما تباع لأنها تحبل في وقت مبكر، ولأن ألبانها مفيدة للشرب ومقوية، فوسط مئات العير المعروضة للبيع، لم أجد غير ثلاثة من «البقر الجمل» وهو حيوان هجين ما بين البقر والجمل، له رأس بقر وبقية الجسد جمل، «إنها لا تصلح إلا للإطعام»، قالها أحد التجار باستخفاف، مضيفاً، ولا تحبل مبكراً، ولكن يمكنك الاستفادة من لحومها فحسب، وتبلغ قيمتها 3500 بير، ثم ابتسم صديقه في وجهي ابتسامة نصفها سخرية وقال لي إنه يرغب في الزواج بي، فقلت له لقد أنجبت أصغر أبنائي بوقت قريب، ولا يصلح لغير الإطعام، فانفجر ضاحكاً.

عادة تستطيع اكتشاف أولويات الناس من خلال المفردات التي يستخدمونها، فاللغة الإنكليزية لديها العديد من المفردات التي تصف المطر، وبطريقة مماثلة تعج لغة الارومو وعفار بمفردات وافرة لأسماء الإبل، فمثلاً في ارومو يسمى الإبل الأقوى والأكبر بكرونا، فقد عرفت بأنه لا يمكن للمرء معرفتها من خلال أحجامها ولكن من خلال ألوان أوبارها، وشعر رقابها وأسنانها، حيث تبلغ قيمة واحد منه 5 آلاف بير، سألت البائع: كيف لي أن أحمله إلى بلدي في حالة اشتريت واحداً منها، فأجاب: أعتقد أنني سأوصلها لك سيراً على الأقدام لأن مركبتك لا تسعه - لقد فكرت في هذا الأمر، ثم سألته: ماذا عن الطائرة؟

تعرف العير الجيدة بأسنانها البائنة، فكي تجد عيراً يحمل متاعك بسهولة ويكون قوياً لعدة سنوات، ابحث عن ذكر صغير تساقطت سنتان من جملة الأسنان الأربعة الكبيرة.
 
 
 


التعليقات