تحدث عن التجربة السومانية ومحطات من مسيرته الشخصية وأدب المهجر
د. نزار محمد عبده غانم في حوار مع الموقع بوست: تراجع الأغنية اليمنية استراحة محارب وأتمنى عودة السلام لليمن
- حوار - أكرم ياسين الجمعة, 11 نوفمبر, 2022 - 02:19 صباحاً
د. نزار محمد عبده غانم في حوار مع الموقع بوست: تراجع الأغنية اليمنية استراحة محارب وأتمنى عودة السلام لليمن

[ الدكتور نزار محمد عبده غانم قدم العديد من الإسهامات الثقافية ]

أن تحاور الدكتور نزار محمد عبده غانم، معناه أن يكون لديك المهارة الكافية للإبحار والغوص في بحر زاخر بمختلف العلوم والفنون، فأنت تحاور طبيباً بارعاً، يعمل أستاذا للطب النفسي والعصبي في كلية الأحفاد الجامعية بمدينة أم درمان السودانية، ومثقفاً مُلماً، وموسيقياً وملحناً مبدعاً، وشاعراً مرهفاً، وباحثاً ومؤلفاً رصيناً، وصاحب تجربة رائدة في العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وهو أيضاً مؤسس الرابطة (السُومانية) كمزج ثقافي وعرقي، بين اليمن والسودان.

 

ولد دكتور نزار غانم في مدينة عدن، في السابع من أكتوبر عام 1958م، وسافر إلى السودان رفقة والده الراحل الدكتور محمد عبده غانم، الذي دعاه البروفسور الراحل عبد الله الطيب، للعمل أستاذاً بكلية الآداب في جامعة الخرطوم عام 1973، وظل فيها حتى العام 1977 بصحبة والدته "منيرة"، وهي ابنة رائد الصحافة اليمنية المعروف محمد علي لقمان.

 

والد نزار يعد علما من أعلام الثقافة والعلم في اليمن، وهو شاعر ومؤلف أسهم في تطوير فن الغناء والمسرح في اليمن، وربطته صداقة بعبد الله الطيب الذي زاره في عدن، وكان محمد عبده غانم، أول يمني يلتحق بجامعة بيروت الأمريكية، والتقى في ثلاثينيات القرن العشرين بلفيف من أعلام السياسة والعلم في السودان لاحقاً، منهم السيد إسماعيل الأزهري، زعيم الاستقلال، ونصر الحاج علي أول مدير لجامعة الخرطوم، ويوسف بابكر بدري عميد كلية الأحفاد، وأحمد المرضي القطب الاتحادي المعروف، وهناك توطدت بينهم الصلات.

 

المؤلف، الدكتور نزار غانم، حصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة الخرطوم عام 1984، وعلي الماجستير في الطب المهني من جامعة لندن عام 1989، وحصل علي شهادات عليا من جامعات في أمريكا ومصر، ودرّس في جامعة صنعاء، ومارس مهنة الطب في عدن، كما عمل ملحقاً ثقافيا بسفارة اليمن في الخرطوم، ويعمل حالياً أستاذا للطب الاجتماعي في كلية الأحفاد الجامعية، في أم درمان بالسودان، وهي الدولة التي استقر فيها، ويقضي حياته مع عائلته.

 

بالنسبة لمصطلح "السومانية" فهي مصطلح اشتق من كلمتي السودان واليمن، وتعبر عن السودانيين واليمنيين الذين يجمعون عرقياً بين البلدين، أو يحملون جنسية القطرين، كما هو حال الدكتور نزار، الذي يحمل الجنسية السودانية، بجانب جنسيته اليمنية.

 

الموقع بوست أجرى هذا الحوار مع الدكتور نزار غانم، ووقف معه على العديد من المحطات والمواقف في حياته الشخصية بمختلف جوانبها، وكذلك في الحياة العامة لليمن، في رحلة تمتد لعقود طويلة، وكانت خلاصتها سردا رائعا لواحد من أهم الشخصيات اليمنية، التي جمعت بين الطب والأدب والفن والغناء، وتميز أكثر بانتمائه لبيت فريد من بيوت الثقافة والعمل الجماهيري.

 

** أنت النجل الأصغر لوالدك المرحوم الدكتور محمد عبده غانم الذي يعد أول أكاديمي يُعنى بالشعر الغنائي على مستوى اليمن، وربما الجزيرة العربية، وأيضا والدتك الكريمة منيرة ابنة الاستاذ محمد علي لقمان، ما مقدار التأثير الذي تركته العائلة العريقة ثقافيا وعلمياً في تشكيل شخصية الدكتور نزار غانم؟ بمعنى هل كانت أفكار ورؤى الدكتور نزار تخضع لعملية صهر وإعادة تشكيل عائلي؟

 

*الحقيقة أنا وأشقائي، وشقيقاتي نعدُ استمراراً لمشروع محمد عبده غانم، ومنيرة محمد علي لقمان في الاستنارة والانتصار لقيمة العلم والحق والخير والجمال، مع أخذ الحقبة الزمنية ما بيننا في الاعتبار - بعض هذا التأثير في وعيي والبعض الأخر في لا وعيي - وبما أنى كما قلت الأصغر سناً فإنني أخذت كثيراً عن إخواني أيضاً، ليس فقط عن والدايَّ وإنما لخالي الشاعر الحبيب المرحوم علي لقمان تأثيراً مهما في كثير من نظراتي للحرية والعدالة أيضا، لقد حاولتُ بالفعل التماهي مع مشروع غانم التربوي في البيت والمجتمع والأمة.

 

ففي البيت حرصتُ أن أكون الابن الموجود قرب الوالدين منذ تخرجي من جامعة الخرطوم1984م، وعودتي إلى اليمن في 1985م، والارتباط هناك بخدمة تطوعية في السلاح الطبي لأربعة أعوام، لم تخلُ من المعاناة، كنت فيها ضابطاً برتبة ملازم أول بالجيش الشمالي آنذاك، وأدركت حينها حجم الفساد الذي ينخر المؤسسة العسكرية باسم العسكرية، والانضباط،  ومن ذلك أيضاً الزواج من يمنية، رغم أن من عرفتهن في الصِبا والهمنني ألحانا على العود، وإرهاصات شعرية كن سودانيات، وهناك أبيات لوالدي تدل على انه أراد لي هذا القرب الجغرافي، وإن كانت له قصائد في كل شقيقاتي وأشقائي، بل وفي الأحفاد أيضا، فهو شاعر عائلة غزير، كما وصفه الناقد العراقي هلال ناجي، في كتابه "شعراء اليمن المعاصرون" والناقد والشاعر د. مبارك حسن خليفة أيضا، وبما أنني دربتُ كطبيب كان مجرد وجودي بين الوالدين يبث فيهما شيء من الطمأنينة، رغم أن تخصصي الدقيق في الطب الاجتماعي لم يكن مفيدا في هذا المنحى، وفي أكثر الأحيان كان أطباء المسالك البولية هم من يحتاجهم أبي لعمليات جراحية صغيرة، ولكنها متكررة رحمة الله عليه، وكان د. أبوبكر القربي زوج شقيقتي الكبرى د. عزة هو من ينهض بالمداواة لهما معظم الأوقات، جزاه الله خيرا.

 

 

على مستوى المجتمع كنتُ كما قال الفيلسوف أبوبكر السقاف في مقاله عني بصحيفة الأيام بعنوان (نزار غانم سلاما) وكانت لي محاولة في القيادة الاجتماعية، من حيث عضويتي في العديد من مؤسسات المجتمع المدني، بل وتأسيس بعضا منها، وكانت مؤازرتي للشهيد عبد العزيز السقاف فارقة في المؤتمر الأول للمنظمات غير الحكومية بصنعاء عام 1997م تقريبا، حيث كلل هذا النضال السلمي بإجازة البرلمان للقانون رقم (1) للعام 2000م تقريباً، والذي تخلصنا بواسطته من القانون الرديء رقم (6) للعام 1963م، الذي حكم النشاط المدني في تلك الفترة البوليسية الشمولية.

 

إن ذلك الدور لي ولغيري قد تنبهت إليه المستشرقة شيلا كارابيكو في كتابها "المجتمع المدني في اليمن" الصادر عام 1998م.

 

أما على المستوى العام تجد أنني كنت (قومجيا) كوالدي، الذي كان من أوائل شعراء اليمن تغنيا بالوحدة العربية، التي أسماها في قصيدة له في الثلاثينات من القرن الفارط (معشوقة الملايين)، فأنا مهندس جسور ثقافية بين اليمن والخليج، الكويت والبحرين على وجه التحديد، وكذا مهندس جسر الوجدان بين اليمن والسودان، ولي دراسات وكتب عن الاصرة الموسيقية بين اليمن والهند، وبين اليمن وشرق افريقيا، حيث روجتُ لمصطلح (افريقانية اليمن) فأنا بإذن الله داعية محبة وأنسنة.

 

**لو أحببنا التعرف على رحلة الدكتور نزار وسنوات عمره الموزعة بين قاعة المحاضرات والبحث والتأليف والدراسة والفن والعود والسُومانية والنشاط العام، هل تسردها لنا؟

 

*معظم جهدي في عمر الثلاثينات والأربعينيات توزع ما بين ترسيخ فكرة العلاج الطبي المجاني، والدعم الصحي لشريحة المبدعين اليمنيين، أو من أدركتهم حرفة الأدب في عيادات صنعاء وعدن والشحر وذمار وإب، ثم البحث الذي لا يعرف الكلل في الجذور التاريخية للفنون الأدائية الموسيقية والحركية في اليمن، وتواشجاتها مع الحضارات المجاورة، لأن اليمن وجدت على طريق التجارة الدولية، والتجارة هي التي تنقل الأفكار والرؤى، مثلما تنقل البخور والحرير والتوابل!

 

في عمر الخمسينات اضطررت أن أبحث عن مكان تجتمع لي فيه حرفة التدريس للطب الاجتماعي، والحصول على التطبيب المتقدم لشخصي، حيث داهمتني الأمراض المزمنة، التي تلح بالحضور قبل وبعد الخمسين، واستهلكتُ كل مدخراتي في عمليات جراحية، أجريتُ منها حتى الآن عمليتين في مصر، وعملية في لندن، وعمليتين في صنعاء، وعمليتين في الخرطوم، وعمليتين في الهند، ويُقال أن الأطباء حينما يمرضون يكونون أسوآ المرضى "يضحك" doctors make the worst patients.

 

في عمر الستينات تفرغتُ أكثر فأكثر لتدريس الطب الاجتماعي للطلبة بجامعة النيلين، والطالبات بجامعة الاحفاد، وكلاهما هنا في السودان، كما حاولتٌ أن استمتع بمشاعر الأبوة، وهدوء الجو العائلي، وصحبة الاحفاد، فلي أربعة أحفاد من ابنتي شيماء، ولي حفيد واحد من إبني فريد، كما أن ابنتي أفنان على وشك التخرج، كطبيبة عامة في العام 2023م، وقد قوي عودي في التدريس بعد انجازي لأطروحة الدكتوراه حول (الأثر المهني للإصابة باضطراب الوسواس القهري) بالعاصمة صنعاء.

 

 أنا حريص على التواصل الدائم مع الناس، على الرغم من كثرة مشاغلي والتزاماتي، ودائما اخصص بعضاً من وقتي للمثاقفة مع الاخرين، والاخريات، وللمجايلة مع الشباب والشابات، وكان لنا في صنعاء صالون ثقافي، كتبت عنه مجلة العربي الكويتية، لأنه كان يتميز باحترام الرأي الاخر، وبحضور الجنسين، وواهمٌ من يبحث عن دور المثقف العضوي المنتمي، إذا غاب دور أسرته الشخصية في عملية التغيير الاجتماعي اصلاحاً واصطلاحاً.

 

وتراجع دوري الاجتماعي هنا، لأنني لم أتمكن من تعويض سيارتي التي كنت أملكها في صنعاء، وأسعار المركبات في السودان لا تساعد على الاطلاق، حتى لاقتناء سيارة مستعملة، لذلك فقد أصبحتُ بيتوتي جدا.

 

**كنت صاحب السبق في تأسيس عيادة طبية مجانية للمثقفين والمبدعين في صنعاء وعدن والشحر وذمار وإب، مطلع تسعينات القرن الماضي، حدثنا عن هذه التجربة، وما هي الخدمات التي تقدمها للمثقفين؟ وإلى أين وصلت؟

 

*في فترة شهر العسل بين شريكي الوحدة اليمنية امتلأت الصحف اليمنية بعرض الحالات الطبية لمبدعين يمنيين ارتبطت أسماءهم بالثورة والتحرير والنهضة والوحدة استعطافا لقلبيّ كلاً من علي عبدالله صالح، وعلي سالم البيض، للتكرم بإسعافهم للعلاج في الخارج، وفي وطن لا يحظى المثقف والمبدع فيه بالتقدير والرعاية اللائقين ولا تصان فيه حقوق الملكية الفكرية، ولا أدل على ذلك أن الطبعات المتتالية لكتاب والدي "شعر الغناء الصنعاني" من قبل دار العودة ببيروت خارج الاتفاقية التي أمضيناها معها لتنفرد بالأرباح، وهو كتاب كان عليه إقبال كبير وحقق مبيعات كبيرة.

 

هذا الوضع الصحي المشين للأدباء و الكُتاب وهم الشريحة التي يعود لها الفضل في تكوين أول جسم وحدوي منذ السبعينيات، وهو اتحاد الادباء و الكتاب اليمنيين، حرك داخلي شعور المثقف العضوي المنتمي، فقِدتُ و معي عدد من الأطباء و الطبيبات مشروعا ما لبث أن أصبح مؤسسيا مكرساً لرعاية هذه الشريحة، وربما ساعد في هذا تخصصي في الطب المهني من جامعة لندن، ومعرفتي واطلاعي على طب الامراض الادائية  performing arts medicine من منظور مهني، مما جعلني أقرب إلى فهم الناحيتين العضوية و النفسية، بل و الاجتماعية، فيما يصيب المبدعين من اعتلال ينعكس على دورهم الطليعي والتنويري في المجتمع.

 

وقد كان للرأسمالية الوطنية خاصة الحاج عبدالواسع هائل سعيد دور المساعدة بالقليل الدائم، وهو خير من كثير منقطع، مما سمح بالاستدامة، وكذا عدد من شركات الأدوية الوطنية، إضافة للمؤسسة الألمانية للتنمية، وشركة كنديان اوكسي النفطية، و ما لبث أن كبر المشروع ليغدو بحجم الوطن ويمتد إلى تفعيل دور ما يعرف بالقطاع الثالث، في الشراكة في التنمية، ولولا المظلة التي وفرها في البداية فرع صنعاء من اتحاد الادباء و الكتاب اليمنيين، لصعب التموضع قانونيا أكثر مما كان عليه، ورغم هذا حدثت تجاوزات إدارية مني نظرا لقلة الخبرة في العمل الجماهيري، وطوباوية تفكير المؤسس الذي دفع هو ثمنها أكثر من غيره.

 

**مثلت زيارة فرقة "جملت شاه" لعدن في العام (1904) وتقديمها عرضاً غنائياً ومسرحياً أدهش الناس، أصبح يؤرخ به بداية الولادة الحقيقة لفن المسرح في اليمن والجزيرة العربية كعراب لفن الغناء اليمني وباحث وفنان، متى بدأ فن الغناء والعزف في اليمن، وهل صحيح ما يقال إن العازف الهندي باري هو أول صوت غنائي سمعه اليمنيون في عدن (1920)؟

 

*على المستوى التاريخي يجب أن نثبت هنا أن الأميرة سلم آل سعيد العمانية عند زيارتها عدن عام 1868م تقريبا واعتناقها النصرانية حضرت عرضا مسرحيا غالبا قام به العسكر البريطانيون، حينئذ كما أن المؤرخ عبد الودود مقشر يعثر بين حين وأخر على ما يدل على عروض مسرحية في الحديدة، التي كانت قاعدة الحكم العثماني الثاني باليمن، وهذه الإشارات لم ترد عند من أرخوا لبواكير المسرح في اليمن، أما تاريخ الطرب في اليمن فلا ينقطع ذكره قبل الإسلام، وبعد الإسلام، على ما فيه من تفنن أفقيا وعموديا، والإشارات الوفيرة إلى آلات الطرب بعوائلها الثلاثة في النقوش والاشعار، كالبعرة التي تدل على البعير.

 

وبالنسبة للعازف "باري" فهو رقم مهم في صياغة الأهازيج العدنية التي تقوم على ألحان وإيقاعات هندية (الجماد)، لكنه ليس الوحيد في ذلك، وتلك كانت مرحلة من التجديد التي قامت على المحاكاة للخارج، فهي تجديد بالتقليد، حدث مع الكويت ومصر وتركيا، وليس الهند فقط، كموسيقى وآلات ومضامين، وتراكيب نغمية، وايقاعية، وقوالب، ووظائف اجتماعية، ومناح جمالية، والباحث بلال غلام حسين سدد الخالق خطاه قدم المثير في صلة عدن بالهند موسيقيا وسيسيولوجيا فله التحية.

 

الأئمة الزيود من أكثر من استخدم الطبلخانة أو الموسيقى العسكرية، كما لم يعترضوا على الفلكلور الغنائي في الريف، مثل أغاني الحصاد، أو البناء، أو المرتبطة بدورة الحياة (ولادة - ختان - بلوغ – خطوبة – عقد – زواج - موت)، وإنما اجتهدوا لمحاربة الغناء التقليدي المديني الراقي، الذي يتجلى فيه إبداع الفرد، كما يقول المفكر الموسيقي الفريد جابر علي أحمد، قدس الخالق روحه.

 

**في بحثك المنشور في كتاب مجلة العربي السادس والثمانين الصادر في أكتوبر/تشرين أول2011 بعنوان (التأثيرات المتبادلة في الموسيقى والغناء بين العرب وآسيا.. اليمن والهند نموذجاً) تأصيل تاريخي لحجم التأثير الموسيقي الهندي في الأغنية اليمنية، ما هو حجم هذا التأثير؟ وهل وصل الى الألحان أم اقتصر على الآلات الموسيقية؟

 

*هو تأثير وتأثر، فتلك طبيعة الأشياء والحضارة الهندية من أم الحضارات، والرقص فيها طقس من طقوس التعبد الديني، ورغم هذا هناك جيوب موسيقية حضرمية في حيدر أباد ومومباي،  وغيرها، والتأثير العربي عموما في الطرب الهندي واضح من خلال قالب (القوالي)، وقالب (الغزل)، بالمقابل تجد في كتب التراث الموسيقي العباسي ما يعرف بإيقاع دور هندي، وأرجح أن من يطلع على تراجم العلامة د عبد الوهاب المقالح سيصيب كبد الحقيقة في التثاقف الموسيقي الهندي اليمني، إضافة لكتابات بحثية راكزة للمستشرقين جبرائيل لافين، وجان لامبير أتت بما يدهش.

 

**ظلت الأغنية اليمنية متربعة على قمة الغناء على مستوى الجزيرة العربية والخليج العربي لعقود طويلة، لكنها بعد رحيل عمالقتها كعلي بن علي الأنسي، وأحمد السنيدار، ومحمد جمعه خان، وأحمد بن أحمد قاسم، ومحمد سعد عبد الله، وأبوبكر سالم بالفقيه، أخذ صوتها في الخفوت تدريجيا لتنكفئ في حفلات الأعراس والمخادر، برأيك ماهي أسباب ذلك الخفوت والتراجع؟

 

*ما هي ألا استراحة محارب، فأبناء وبنات اليمن صاروا يجمعون إلى الموهبة الصارخة المتوارثة عبر الأجيال معرفة أكاديمية ووعيا موسيقياً جمالياً يليق بالذكاء الفطري اليمني، الذي أشار اليه الجاحظ في مفاضلته بين الأمم وهو انثروبولوجي، وفسيولوجي خطير، ورائد في هذا الجانب المعرفي، وحتى خلال السنوات التي نفشل فيها في إدارة خلافاتنا بالطرق السلمية يبرز الفن الغنائي ليجسر الهوة بين مكونات المجتمع، موحدا الوجدان، وسيكون هذا أكثر وضوحا حينما يتمكن السلام من إتاحة الفرصة العادلة، في امتلاك  لمؤسسات الصناعات الثقافية، التي تراهن على تفرد اليمن بالفنون الادائية، وبالمعمارين الحجري والطيني، وبثروة من المخطوطات التي تحيل إلى مكنز عربي إسلامي يتجاوز القطرية المقيتة، يقول أحمد السقاف: "ولقد برأت اليك من قطرية شلاء تؤثر موطن الميلاد".

 

**تعمل أستاذاً مشاركا للطب الاجتماعي في مدرسة الطب بجامعة الأحفاد للبنات بالسودان، هل أكسب الفنان والملحن والشاعر دكتور نزار الأكاديمي والطبيب ميزات في عمله الاكاديمي، أم أن نزار الطبيب والاكاديمي يعمل بمعزل عن نزار الفنان والملحن والمثقف؟

 

*هذا الفصل تعسفي، لأن وجداني غني بالإنسانية الى درجة ملفتة، لمسها أكثر من احتكوا بي، في رحلة الحياة، وأنا طبيب بين الأطباء، وأديب بين الأدباء، والواقع إن أُسلوبي في تبسيط العلوم الطبية وربطها بالجدل التجريبي، من حيث الفردانية، والحتمية، هو أحد العوامل التي تجعل محاضراتي تجتذب طلابا من مساقات أخرى غير الطب، سواءً في جامعة صنعاء، أو جامعة الاحفاد للبنات، للاندساس بين طلبة الطب الرسميين، وصار لي طلاب يعتزون جدا بأنهم تلقوا الطب الاجتماعي على يدي، وأذكر منهم في صنعاء الدكاترة علي المضواحي، ومختار محرم، ومحمد الشميري، وسامي الدبعي، وسلوى جمال، وأخرين أرى فيهم رهاني على العلم التجريبي، في الحد من تناقضات التفكير في مناهجه الأربعة.

 

**في السابع من يوليو الماضي أكمل بروفسور نزار غانم عامه الرابع والستين، عشت أغلبها خارج اليمن، وخضت تجربة الاغتراب وعمرك 15عاماً، من وجهة نظرك لماذا يضطر المثقف اليمني للهجرة عن بلده؟

 

*المثقف اليمني شديد الارتباط بالجغرافيا اليمنية، وكباقي الكادحين في اليمن، قد يغادرها، ولكنها لا تغادره، لدرجة أن هناك أدب مهجري يمني، مواز للأدب المهجري اللبناني، وهو شديد التعبير عن المنعطفات السياسية، والتعقيد الاقتصادي والاجتماعي الذي رافق تلك المراحل، لكن البردوني اختصر علينا المحنة حينما أشار الى رخص الانسان في الوطن، وعدم الاستقرار لا يمكن أن يحقق الكرامة للساكنين، لأنه يعرقل التنمية التي تسعى للتغلب على الفوارق الموروثة والمكتسبة.

 

**يعتبر كتابك "جسر الوجدان بين اليمن والسودان" من أهم المراجع التاريخية للهجرات المتبادلة بين الشعب اليمني وشعوب شرق افريقيا بصفة عامة، والشعب السوداني بصفة خاصة، سؤالي عن السودان هل تركت تلك الهجرات المتبادلة بين الشعبين اليمني والسوداني شواهد وآثار على الصُعد الاجتماعية والثقافية والفنية باقية حتى اليوم؟

 

*نعم لكن علينا أن نتذكر أن تيارات الحياة بما فهيا العولمة والاعلام البديل مدت مزيدا من التلاحمات بين المنطقتين، مشفوعة بحركة نشطة للسكان، والكتاب المذكور أُعد عام 1994م، لذلك فهو مقاربة للأمر، تحتاج لتحديث لا يتوقف، وهذا بدوره يحتاج إلى جهود مؤسسية ميسرة، وأنا لست (سوبرمان) في أي شيء.

 

لكن في الكتاب المذكور هناك صوت قوي للفكرة السومانية إن جاز التعبير، فنحن مجتمعات اقتصادية متواضعة، رعوية وزراعية، مما يجعل المشترك بيننا ثقافة ومدنية وحضارة ملفت للإنظار، على السومانية أن تجد لنفسها آفاقا متجددة، تمتاح من هذا الألق الوجداني، كما قال لي ذات مرة المفكر السوماني د عبدالسلام نورالدين حماد عند لقائي به في جامعة مانشستر في بريطانيا بعيد صدور الكتاب.

 

**"السُومانية" كاسم هي دمج لكلمتي اليمن والسودان، لكنها بالنسبة للدكتور نزار غانم مشروعا لا سقف محدد لطموحاته، يختزل كل الوشائج الأخوية والدينية والعرقية والجغرافية والتاريخية والثقافية بين بلدين شقيقين فشلت كل المحاولات الاستعمارية والسياسية من قطع جسور تواصل ممتدة بينهما منذ فجر التاريخ، متى بدأت "السُومانية" كفكرة في مخيلة دكتور نزار غانم؟ ومتى ولدت كمشروع يكبُر كل يوم؟

 

*عند عودتي لصنعاء عام 1985م طَلب مني الصحفي اليمني الراحل عبد الوهاب المؤيد، مدير مكتب صحيفة الشرق الأوسط حينها في صنعاء كتابة مقالات تتناول المشترك الثقافي لليمن والسودان، فبدأت بثلاث حلقات من مشروع شاعر سوماني هم عبد الله حمران، ولطفي أمان، وتاج السر الحسن، و للأسف توقفت فخفت صوت المصطلح، وعندما شعرت أن المقيل الثقافي للأستاذ سيد حمد الحردلو بدأ باستخدام المصطلح، قلتُ إذن وجب استخدامه من الآن و صاعدا، وكان هذا منذ أواخر الثمانينيات، وفي المحصلة هناك اتجاه لمقاومة ثقافة القطرية التي استشرت من مرحلة ما بعد الكولونيالية في الشرق الأوسط و افريقيا.

 

**هل لاقت "السُومانية" كمشروع نفس الحماس والتفاعل والتأييد من السياسيين والحكومتين اليمنية والسودانية كما لاقت من المثقفين والأكاديميين؟

 

للإنصاف لم يوجد عداء مع الفكرة، لا سيما أن نظامي عمر البشير وعلي عبدالله صالح كان بينهما مصالح مشتركة واضحة، لكنني لم أكن ضمن السياسيين الذين يمكن لهذه الحكومات ان تؤازرها ماديا، ثم تعود لتصفيهم إذا اضطرت لذلك، وهو ما حدث للفقيد د محمد يحي الشرفي، لو تأملت سنوات قربه ثم بعده عن الرئيس علي عبدالله صالح وقبل ذلك قربه من الرئيس السوداني جعفر نميري.

 

**ماتزال الأغنية السودانية محافظة على كلاسيكيتها لحناً وأداءً، فيما طرأ نوع من التجديد، ولو نسبياً في الأغنية اليمنية، أين يكمن الشبه في الأغنيتين اليمنية والسودانية؟

 

*الشبه يكمن في وجود ينابيع إثرائية مدهشة، وكونها موسيقى تقوم على التطريب أساسا، كما تعاني الموسيقتان من بعض التهميش، كونهما تقعان في أطراف وليس مراكز الصناعات الثقافية في الوطن العربي.

 

**لو عرضُ على دكتور نزار العودة الى اليمن مقابل تلبية كافة مطالبه، هل ستوافق؟

 

*هذا صعب جداً حاليا، لأن ما أطلبه ليس وضعاً معينا لنفسي، بل هو عودة السلام لليمن، والتوافق الصادق على إدارة الخلافات السياسية بطريقة سلمية ديمقراطية، وعدم ادخار أي جهود لتحقيق الأمن المجتمعي، والمصالحة الوطنية.

 

أنا أنتظر تباشير كهذه، وعندئذ ستجدني أحد أوائل العائدين، وبالمناسبة كان والدي المرحوم الدكتور محمد عبده غانم يلحُ عليا ويطالبني بالعودة إلى الوطن، وناشدني لذلك شعراً كما تُبين قصيدته هذه:

 

عُدْ إِلَينَا

قَد كَفَانَا مَا لَقِينَا

عُد إِلَينَا لَا تُهَاجِر

عُد إِلَينَا

لَمْ يَعُد فِينَا عَلى الصَّبرِ على الأشوَاقِ قَادِرْ

عُد إِلَينَا

يَا طَبِيبِي نَحنُ - بِالأَشواقِ - مَرضَى

بُورِكَتْ كَفُّ المُواسِي والمُؤَازِر

عُد إِلَينَا

تُنقِذُ البَاقِي مِن الهَيكَلَ مِن دَاءٍ مُخَامِر

فِي صَمِيمِ العَظمِ نَاخِر

لَمْ يَعُدْ فِي الشَّيخِ مَا يَقوَى عَلى الصَّبرِ فَبَادِر

عُد إِلَينَا

كَي نَرَى الإِكلِيلَ زَهرًا عَبقَرِيَّ اللَّمحِ آسِرْ

كَي نَرَاهُ حِينَ يَشدُو فِي جَبِينِ النَّصرِ بِالأَلحَانِ عَاطِرْ

كَي نَرَى فِيهِ جَزَاءَ الصّبرِ سَافِرْ

كَي يَعُودَ الشَّوكَ وَردًا كَي نَرَى فِي فَرحَةِ العَودةِ آلَافَ البَشَائِر

كَي يَظلَّ القَلب شَاكِر

نِعمَةَ المَولَى على العَبدِ وذَاكِر

 

**بعد هذه الرحلة الطويلة والثرية في الطب والعمل الأكاديمي والبحث العلمي والتأليف، والفن والشعر والثقافة والعمل العام، هل أنت راض ٍ عنما قدمته، وماذا بقي لدى دكتور نزار ليفعله؟

 

*أهم تحدي أمر به الآن هو ألا أستسلم لأمراض تقدم السن، وألا أستسلم للعمر ذاته not to surrender to age وأجد نفسي أردد مع أمرئ القيس: نحاول (خيرا) أو نموت فنعذر.


التعليقات