صورة العناء اليمني في رواية "تبادل الهزء" للكاتب محمود ياسين (إطار)
- خاص الإثنين, 20 يونيو, 2022 - 12:01 صباحاً
صورة العناء اليمني في رواية

[ قراءة لرواية "تبادل الهزء" للكاتب محمود ياسين ]

تكتسب رواية "تبادل الهزء بين رجل وماضيه" للكاتب محمود ياسين، أهمية خاصة في الظرف الزمني الراهن في اليمن، والذي يمثُل على مشهد واقع يجسد أحد أقسى نماذج تداعي الوجود الإنساني في العصر الحديث، فالرواية المبنية على حالة من صراع ذاتي لبطل محتدم بالمشكلات، تبدو كما لو كانت استباقا فنيا لنموذج من أزمة وجود يتلخص اليوم في واقع يمني مأزوم.

 

الرواية الصادرة في العام 2014 عن دار "نينوى" بدمشق، والتي تدور أحداثها خلال الحقبة اليمنية المعاصرة، تحكي قصة صحفي يمني مُمزق يدعى العزي، يعيش حياة يجدها باهتة في صنعاء، فيقرر تأجيجها باتباع تجارب ومجازفات جديدة سعيا خلف وجود ملموس ينعش حياته، فيعمد أولا إلى إحراق مقر الصحيفة التي يعمل فيها في صنعاء بدافع من حاجة نفسية ملحة لتغيير ذاتي، ليجد نفسه بعد أيام من ذلك في ضيافة قبلية في احدى ضواحي صنعاء، كانت بمثابة مكافئة له على صنيعه في إنقاذ حارس الصحيفة بعد إحراقها، والحارس رجل قبلي يدعى حمود كان يحاول أن يتخلى عن جذوره القبلية لصالح حياة مدنية إلى جوار المثقفين في صنعاء، وهو توق بريء كان محل هزء خفى بالنسبة للعزي الذي كان يسعى إلى التخلي عن كونه مثقفا والعودة للحياة البداية، وهي مفارقة طريفة تُجسد مسعيين متناقضين، حيث القبلي الذي يتوق لحياة ثقافية مسالمة والمثقف الذي يسعى لحياة بدائية متأججة.

 

يمكث العزي لأيام في ضيافة قسرية لدى القبيلة ويلتقي أثناء ذلك السائحة اليونانية "مارينا" المختطفة لدى القبيلة ذاتها التي تستضيفه. تجري بعض الأحداث حتى يقرر العزي الفرار من مطارح القبيلة والعودة إلى مدينة صنعاء ثم إلى قريته في محافظة "إب"، متتبعا درب الطفولة والذكريات الدافئة التي تركها خلفه حين قرر الالتحاق بالعاصمة صنعاء، وفي القرية يستعيد العزي بعض معالم حياته القديمة، محبوبته "أمرية" و"القات" و"رفاق المدرسة والطفولة". يواصل العمل على مشروعه الروائي الذي كان قد خطط لإنجازه في صنعاء، وينخرط في بعض المغامرات الخطيرة في القرية.

 

في خضم كل ذلك، يسعى العزي للقبض على وجود بدائي حقيقي وملموس، فهو كما يصف الراوي، "ينتشي"، "يخزن"، "يعرَق"، و"يرقص" في القرية، لكنه لا ينجو من التشظي الذاتي الذي يستوطنه، ويعيش مشطور الهوية والوجود موزعا بين صورة الصحفي والمثقف الذي كانه في صنعاء والإنسان البدائي المنفلت الذي غدا عليه في القرية.

 

مشكلة الهوية

 

العزي بطل الرواية والشخصية الرئيسية فيها يمثل حالة وجود إنساني يمني ملتبس غارق في ربكة ومتاهات لا تنتهي. يعيش دوما حياة متفاقمة ضمن سياق من الصراع الذاتي والمغامرات ومجابهة مخاطر عديد والسعي خلف خلاص مجهول. يحظى العزي بخفة مرحة وحيوية فائقة تظهر في تداعياته الذهنية ونزالاته مع الواقع اليومي. وفي كونه رمز لليمني المأزوم يبدو العزي ملائما لفكرة الضياع التي هو عليها، وبذلك الطيش الذي يليق بشخص خاسر يعيش حياة مفككة ليست أكثر من هزء ومفارقات.

 

بعد سنوات في صنعاء قضاها كصحفي لا يُمنى سوى بالخذلان؛ يعود العزي لقريته في "إب" ليس للاعتصام بما تبقى من دفئ لذكريات قديمة فحسب، بل ولإنعاش الماضي أيضا، فيُسلم نفسه لـ"أمرية" و"مقايل القات" ورفاقه القدامى "عبدالرحيم" و"الشوحطة" عاثرا على ما كان يرجو في الحياة الريفية، وجود نابض وملموس، فيعيش كل الاعتباطات اللذيذة في القرية وينخرط تباعا في بعض المغامرات الخطرة لكي يشعر بوجوده الملموس الذي افتقده في صنعاء لصالح وجود آخر ضحل وباهت، كان يمثله كصحفي مخذول وبلا عزاءات في مدينة بلا اتساق كصنعاء، حيث المشكلات تتفاقم، وحيث تأزم الروى في الدين والسياسة والقبيلة والأحزاب.

 

وحيث الكثير من المفارقات الاجتماعية تزدهر أيضا، فهناك الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاحش، وهناك القبيلة والمدنية تصطرعان في صمت، وهناك الزيف والنفاق والنُخب والانتهازية في منظومتي السلطة والمعارضة، وفي خضم كل ذلك كان العزي يعْلَق في مفارقات وإشكالات بلا عدد، جسدها العزي الذي حُمِّل دلالات كثيرة قصد محمود ياسين تمريرها بدافع من وفاء فني لحياة مضطربة في بلد بدائي كان يحاول ولوج الحداثة بتخبط أليم.

 

والعزي ليس فقط الصحفي الملتبس اللاهث خلف ما لا يدري فحسب، لقد كان صورة رمزية دقيقة لأحد نماذج الضياع اليمني، فهو الصحفي والمثقف الذكي الذي وجد نفسه تائها وبلا فرص أو مصير لائق، وهو أيضا، القروي النابض بالحياة والبساطة، وكذلك كان القبلي المدجج بالعنف والسلاح، وهي الصورة التي غدا عليها في القرية وقد عمد لتنفيذ عدد من المغامرات بدافع من رعونة من لم يعد يخشى شيئا، تمثلت في عمليات إغارة لسرقة "قات" من شِعب بن ناجي، وتعمد مواجهة هذا الأخير، وكان رجل قبلي عتيد ونافذ وله ماض مريع في العنف، وكان جده قد قدم إلى "إب" قديما للاستقرار فيها بعد فراره من مناطق الشمال التي ينتمي لها، على خلفية جريمة قتل اقترفها، وهو سلوك شائع تضج به مرويات التاريخ والثقافة، فقد كان القبلي القاطن مناطق الشمال يهرب من تبعات جرائمه إلى اليمن الأسفل المُسالم، خصوصا، مناطق "تعز" و"إب".

 

مأزق المصير

 

في فضاء من الرموز والكلمات حاك محمود ياسين نموذج سردي رفيع نابض بالدلالات، يجسد شكل من حياة هي عبارة عن تداع يمني مبكر لم يكف عن التناسل والتفاقم حتى بات اليوم ماثلا بأقصى صورة من الفشل والتداعي والخذلان، حيث النخب والطوائف في صراع مع بعضها، والناس عالقون فيما يبدو مأزق وجود أو نموذج مظلم من حياة متفاقمة يستميت فيها المرء لإنجاز خلاص مستحيل في مساحة من خراب معمم وعتمة لا تنتهي، وحيث اليمني المثخن بوجوده العاجز عن حياكة اتساق مع واقع خاطئ، فهو الممزق دوما بالتجارب والتداعيات واليؤوس الماحقة.

 

طرحت الرواية "النموذج اليمني من مأزق المصير"، حيث الإنسان المجرد حتى من رفاهية التداعي اللائق. إنه اليمني العالق في التباسات كثيرة، المفتقر لكل ما يمكن أن يهبه وجودا سويا، المنفي في جرح الكرامة والوجود، المتعثر، اللاهث عبثا خلف ما لا يدري، غير المفلح في شيء أكثر من افتعال المعارك والأفعال الخرقاء التي تكشف عن أزمة وجود وعن حالة هروب يائسة من الذات وقد غدت عبئا لا يطاق، ذلك هو العزي، وهو اليمني في أوفى أشكاله.

 

التباس الذات والرؤية

 

يتحرك محمود ياسين في "تبادل الهزء" في فضاء من الخفة والهزء والمفارقات، فهناك الفشل ومأزق المصير وحاجة العزي المؤرقة الدائمة لفعل تغيير يقلب حياته، وفجوة اختلال الثقة بينه وبين نفسه، وهو أمر يتجسد في الكثير من المواقف داخل الرواية، فالعزي -بوصفه النموذج اليمني من الضياع الوجودي- يعاني من أزمة وجود ومصير وهوية، وهو في سعى حثيث لاكتشاف ذاته في أفعاله والأشياء الخارجية وكل ما يُفترض أن يحدث في حياته، لذا فهو في حالة من هوس دائم للانخراط في أي مغامرة جديدة، لكنه لا يعثر على رضاه الذاتي في أي من كل ذلك، وفي كل حالاته يبدو كما لو أنه يتنافى مع هويته الخاصة ويمضي تائها على نحو من تعارض جارح مع أصالته الذاتية، والواضح أن لا اتساقه الذاتي وتنافيه الدائم مع ما يفترض أن يكونه؛ ناشئان عن أزمة هوية لدى العزي، فهو يعيش حالة من اللا انتماء والشتات تجعله في تشظ دائم، والمفارقة أنه لا يدرك مأزقه الداخلي، لذا نجده يمضي قدما فحسب بعشوائية، حاملا معه كل الالتباسات، وينخرط في تجارب جديدة محاولا اكتشاف مأزقه في أحداث ونماذج خارجية، فلا يهتدي لأي وضوح.

 

فهو لا يملك دوافع منطقية خلف اختياراته في الحياة، ويتخذ دوما قرارات خطيرة بناء على حالة من التباس أو بالاعتماد على حدوس غير جليّة، مثل فعل إحراق مقر الصحيفة الذي لا يدري لماذا أقدم عليه، أو قرار المجابهة المسلحة ضد رجل نافذ وخطير كـ"ابن ناجي" في "إب"، إذ وجد العزي نفسه منساقا للمواجهة بدافع من الغواية واللا اكتراث وحس الانتقام من الشمالي النافذ على حساب أبناء المناطق الجنوبية والوسطى. فلم يكن يعتمد على الأسباب الوجيهة إلا من ناحية الهزء أو في حال كانت صالحة لمعاضدة رعونته في اتخاذ القرار لا أكثر.

 

يجسد العزي في هذه الوضعية حالة من غُبن إنساني بلغت حدا كبيرا من الإحساس بانعدام العدالة والقيمة الإنسانية، فلجأت إلى اللا اكتراث والهزء كأدوات للمواجهة، مُحيكة نمط من اضطراب إنسانية تبدى بفعل تجذر اليأس من فكرة العدالة في بلد لا تحكمه إلا القوة والنفوذ، وفي ذلك إسقاط حي على الواقع اليمني المعيش القائم على الكثير من الظلم والجبرية، والماثل بأشكال لا حصر لها في البلد الذي لطالما نُعت يوما بالسعيد.

 

مواجهة المجهول

 

وفي المُجمل، يُمثّل العزي حالة من صراع نفسي، وفكري، واجتماعي، يعيشها على الدوام. فإلى جانب تصرفاته غير المبررة لم يكن العزي يدري ما الذي يريد وما هي هويته؟ ولا يدري حتى ما الفعل الذي سوف يُقدم عليه بعد لحظات؟ ولا إلى أين يمضي ولا ما يطمح إليه في الحياة؟ وذلك بمثابة صورة أليمة للإنسان اليمني المجهول دوما بالنسبة لذاته، والمُختزل في اضطراراته، والذي لا يكتسب هويته إلا من ناحية ما يتبعه من عمل لا يكون له فيه من خيار في الغالب، فيحظى بهوية زائفة، ويعيش في فصام مع ما هو عليه وما يريد أن يكونه.

 

يتضح في الرواية أن غاية العزي في تحقيق وجود ملموس كانت زائفة، فلم تكن تجسد تلك الغاية سوى مشكلة سوء فهم للذات لدى العزي الذي يتبعها -دون وعي- للهروب من أزمة ذاتية تعصف به، فيمضي قدما في خداع نفسه وموارة مشاكل كثيرة في حياته كانت تعصف به بأكثر مما كان يظن.

 

 

كان العزي -بطل الرواية- صورة من اضطراب إنساني أليم ناتج عن أزمة وجود تمثُل في صراع دائم مع عالم يموج بما لا يفهمه. ذلك هو الإنسان اليمني عينه، لقد كان نموذجا للالتباس الذاتي في أكثر صوره إشكالية.

 

خطط العزي لكتابة رواية وللحظي بوجود ملموس، لكنه في الواقع لم يكن يدري ما الذي يريد في الحياة، حتى أنه في النهاية وحين تلقى رصاصة تحت بطنه خلال عراكه مع "بن ناجي" في القرية، وفي حين كان الدم يثعب من بين أحشائه لم يفزع؛ بل ظل ينتظر بزوغ رؤية ما من ذهنه قد تغييره للأبد، من الواضح أنه كان يبحث عن صدمة توقظه، عن مَخرج ما من أزمة مبهمة، كان ينشد الوضوح، وذلك ما لم يكن هو نفسه يدركه تماما.

 

ندوب المصير اليمني

 

طرقت الرواية أيضا أحد الجوانب النفسية الأكثر حرجا لدى اليمني، والإنسان عموما، والتي تتمثل في ذلك الشعور المرير بـ "الذل"، أو الخزي والهوان الذي يعتري الإنسان في اللحظات الأكثر حرجا من تداعي الوجود، وقد برع الكاتب في تصوير هذا النوع من المشاعر بشكل بديع، ففي مشهد للعزي في لحظة حرجة من ندب المصير، وبينما كان ينتظر اتصال من إحداهن على سبيل التمني ضرط أحد العمال البؤساء في حمام الغرفة المجاورة لغرفة العزي على نحو صدم العزي وهاله ودفعه للإحساس بإذلال فادح أمام ما بدا انكشافا أليما لضحالة الوجود الإنساني. كان حدثا طبيعيا يمكن أن يمر ببرود كأي حدث آخر لولا أن العزي كان حينها مهيئا وبشكل فادح لإدراك حقيقة إنسانية مريعة كتلك، لقد كانت روحه مفتوحة حينها لتمثُل أكبر قد ممكن من الهوان والاستياء والألم.

 

"ما أسوأ ضرط البؤساء لبعضهم" هتف العزي بذلك في نفسه في حالة من وعي مرير بذلك النوع من الذل الذي يعتري المرء في لحظة انكشاف صادمة. واليمني ليس غريبا أبدا عن هذا النوع من الأحاسيس، بل إنه يعيش في نطاقها، ويمكن لأتفه سبب أن يفاقم من شعوره الجارح تجاه ذاته، ذلك أن كرامة اليمني دوما على المحك بسبب من شعور دائم ومؤرق بالنقص، ترسخ لديه على مدى عمر من المهانات والحرمان الأليم.

 

يمكن القول أن "تبادل الهزء" -التي صدرت قبل اندلاع الحرب بعام واحد- كانت بمثابة استباق فني لتداعي الوجود الذي غدا عليه اليمني خلال السبع السنوات الأخيرة بفعل الحرب. وتضمنت الرواية دلالات بأكثر مما قصد الكاتب نفسه، فالعزي الذي يعيش حالة من ضياع وجودي بسبب من اضطراب الواقع، هو صورة جلية لليمني المأزوم في ماضيه وحاضره، العالق في مأزق الهوية، والوجود، والمصير.


التعليقات